هل يمكن لأي عمل اقتصادي أن ينجح ما لم تصاحبه إرادة سياسية ذكية قوية؟ قد لا نجد دولة طوّرت مجتمعا بالذكاء الاقتصادي مفصولا عن الذكاء السياسي، ولن تتقدم المجتمعات التي يسيّرها الغباء السياسي حتى ولو اتسمت بالتخمة الاقتصادية... لم تتحدث كثير من الصحافة الوطنية عن ملتقى الذكاء الاقتصادي الذي ُعقد في بداية الأسبوع، ولم تتناوله بعض الصحف بما يحب أن يكون أو على الأقل بما كان يأمل أصحابه والداعون إليه، ربما لأن الإعلام الوطني موزع جهده بين البحث عن عورات الشارع والبيت الجزائريين اللذين لم يعد يخفى منهما إلا القليل، فكل شيء لديهما أصبح مكشوفا ومعروضا على نواصي الطرقات، وقد يعود إلى انطباع استباقي عن الملتقى بأنه لا يعدو أن يكون إلا مجرد رقم آخر في تظاهرات باهتة ترفع بها المؤسسات القائمة رقم نشاطها السنوي، أو لأن اهتمامات بعض الصحافة لم تعد هي نفس اهتمامات الجزائريين بعد انسلاخ هذا البعض عن قيّم مهنة المتاعب النبيلة وانخراطهم مع السابحين في مستنقع الربح المادي السريع بأية طريقة، وانتهت الأشغال كما بدأت دون ضجيج إعلامي وكأن هناك من أراد أن يكون بهذه الطريقة! الجزائر – كدولة معنية بلعب دورها التاريخي والاستراتيجي – مطالبة أكثر بتحقيق نجاعة اقتصادية تنقلها من وضعية التأهّب المزمنة - والتي كادت أن تتحول إلى حالة مستديمة- إلى تفعيل مختلف أدواتها القائمة وتوظيف إمكانياتها البشرية والمادية المحيَّدة أو المهجَّرة أو العاملة لصالح مجتمعات سياسية أجنبية، وأن الذكاء الاقتصادي ليس عملية حسابية مجردة تقوم بتعداد المعلومات الاقتصادية المختلفة وترتيبها وتبويبها وتركها في الأدراج يلعب بها المتحايلون على جزء من الرأي العام أوجُلّه حفاظا على مكتسبات استحوذوا عليها دون استحقاق كلما حل خريف الغضب الشعبي، بقدر ما هو إعداد جيّد لمعركة التنمية التي يساهم فيها كل الشركاء لأنها ببساطة تعني المجتمع كله، خاصة وأن جارنا الشمالي اللدود راح ُينجز في صمت ما وعد بالسطو- عن طريق الاستقطاب- على الثروة البشرية المفكرة الجزائرية في إطار سياسة الهجرة المنتقاة، وإعادة إنعاش المؤسسات الاقتصادية الفرنسية بالمال الجزائري لكي يجد الجزائريون بعد فترة أن أبناءهم أصبحوا شحاتين قد يبيعون ما يكون قد بقي لهم . البرنامج الذي حملته حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله والتي كانت تملك قوة مالية ومادية وبشرية هامة وبعدا وطنيا كافيا لم ُيكتب لها النجاح المطلوب على الأقل لأنها أهملت –في رأيي- بعدا أساسيا وهو عدم قدرة السياسي على إقناع الشرائح الكبيرة بانضمامها إلى المعادلة الاقتصادية وتحييد كفاءات كبيرة لها رأي أخر مفيد في عملية الإقلاع، كذلك الحال بالنسبة لحكومة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد التي كانت تملك ثروة أكبر ولكنها حاولت أن تبدأ من خط الانطلاق الأول وقد ألغت أو كادت أن تلغي كل ما أنجزه سابقوها حتى جاءت الأزمة الاقتصادية نتيجة السقوط الحر لأسعار النفط، فلم تستطع فعْل الكثير وعصفت بها ريح أكتوبر عام 1988 التي رمتها إلى الأزمة الكبرى التي كادت تفتت الدولة لولا بقية من رجال وبقايا روح وطنية مخبأة في نفوس الجزائريين وهي رصيدهم الذي يتجدد فقط في المُلمات . الدول التي تمكنت من الخروج السلس من دائرة التخلف وحققت بذلك تقدما ُمهِمًّا هي تلك التي استطاعت أن تزاوج-باقتدار وكفاءة وذكاء- بين إمكانياتها الاقتصادية والتقنية وثرواتها البشرية والمادية وبين طموحها السياسي العام، ولم تترك مستقبلها نهْبا لسياسيي الحاضر البائس الذين لم يستطيعوا غير إعادة إنتاج الدجل عبر مختلف المواقع والمنابر، وإذا كانت مسألة الخروج من أزمة التخلف المركّب قد أُستصعِب إنجازها اليوم في ظل احتكار الثروة البشرية من طرف أقلية عابرة للقارات والحدود بنهمها وقذارتها فإن الدول الساعية للخروج من دائرة الضيق مدعوة إلى تسليم مقاليدها إلى ساستها المحترفين، والاستماع إلى عقولها النيّرة أكثر من استماعها إلى عواطفها المتقلبة، والإنصات إلى خبرائها في مختلف المادين لا إلى مشعوذيها السياسيين، وأن تزحزح أولئك الذين لا يعرفون غير تلويك الدعاية للواقف والدعاء- لأنفسهم- ببقائه. إن السؤال الذي كان يجب-في اعتقادي- أن يطرحه منظمو الملتقى هو: متى يمكن المزاوجة الفعلية المطلوبة والمدروسة بين كل من الذكاء الاقتصادي والسياسي، وهل عبثُ الغباء السياسي بالذكاء الاقتصادي هو الذي أنتج هذه المجتمعات الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية والمالية، والفقيرة بحياتها الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية؟ لأن الإجابة العملية عن هذا السؤال المنهجي وما يمكن أن يتفرع عنه من أسئلة يمكن لأي مواطن-خاصة في الجزائر- أن يطرحها هي مفتاح الحل، وإلا ظل الذكاء الاقتصادي عرضة للفساد السياسي حتى يصبح الغباء ثقافة، وتلك هي حال المجتمعات الراكدة والتي تنهشها الأمراض ا العائدة والمستجدة من السل إلى الإرهاب وتنقلها إلى مجتمعات بدأت تسير على طريق التلاشي ...