من عدة أشهر، لما تقدمت مجموعة من نواب المجلس الشعبي الوطني بمشروع قانون لتجريم الاستعمار، أجرت معي إذاعة ) مونتي كارلو( الفرنسية حوارا حول الموضوع، وأول ما لاحظته، من خلال أسئلة الصحفية، أن هناك قلقا فرنسيا من مسألة التجريم مما جعلني أذكرها أولا بأن نواب البرلمان الفرنسي ارتكبوا خطأ فظيعا لما أصدروا قانونا ) فبراير 2006( يمجد الاستعمار، ثم حاولت أن أفسر لها الأمور بنفس منطق الفرنسيين وقلت أن على هؤلاء الناس بالضفة الشمالية للمتوسط أن ينظروا إلى الأمر على أنه يتعلق بتصفية حسابات الماضي لصالح أجيال المستقبل وأن الأمر كله مفيد جدا لفرنسا كما هو مفيد للجزائر لأن ما بين الدولتين من علاقات ثقافية واقتصادية و»بشرية« كبير جدا وعميق جدا مما يؤهلهما، إن صدقت النوايا وصفيت قضايا التاريخ بما لا يطمس ذاكرة الجزائريين، لإنشاء فضاء مشترك واسع وقوي ومؤثر في المنطقة كلها، وأضفت بأن أمر تجريم الاستعمار لا يهدف من خلاله إلى إثارة الأحقاد على فرنسا بل لتوعية الأجيال بأخطار الظاهرة الاستعمارية كي لا تتكرر المأساة ثانية. اليوم، بمناسبة ذكرى جرائم الثامن ماي 1945، أعود للحديث عن نفس الموضوع، عبر هذه المساحة من جريدة »صوت الأحرار«، للتذكير بأن الثورة الجزائرية هي من قوضت الظاهرة الاستعمارية في شكلها القديم، وكادت هذه الظاهرة المقيتة تنقرض تماما من العالم لولا بقاء بعض الجيوب القليلة ) فلسطين، والصحراء الغربية(، غير أنها عادت من جديد من خلال احتلال العراق وأفغانستان مما يجعل الشعوب الغير مالكة لأسباب القوة مهددة من جديد بالاحتلال من طرف الدول الكبرى، لذلك، فأن كل أحرار العالم مطالبون اليوم بالعمل على جعل الممارسة الاستعمارية شبيهة بممارسة العبودية، ومثلما زال الرق تماما من العالم يجب أن يزول الاحتلال أيضا؛ على هذا المستوى، يبرز دور أحرار فرنسا، إذ لا يعقل أبدا أن لا يندمج المثقفون والمفكرون وكل المستنيرين الفرنسيين في مسعى المثقفين والمفكرين والمستنيرين الجزائريين في قضية تهدف أساسا إلى خدمة الإنسانية جمعاء وتجنيب ضعفاء الكرة الأرضية تسلط وبطش الأقوياء. من هذا المنظور، فأن تجريم الاستعمار، لا يجب أن يبقى مطلبا جزائريا فقط بل لا بد أن يحول إلى مطلب جماهيري فرنسي أيضا وبذلك تحرر فرنسا نفسها من قيود التاريخ وتؤسس لبناء فضاء متوسطي ) على الأقل في شقه الغربي( خال من شوائب الماضي وحساسياته. هذا الإنجاز، ليس سهلا فهو يتطلب اليوم تجند كل القوى الحية في الجزائر مع التأكيد على أن للمتعلمين باللغة الفرنسية دورا بارزا في هذا الأمر لأن عليهم نقل معركة التجريم، من خلال إنتاج فكري وثقافي وفني راق بلغة الفرنسيين، إلى فرنسا نفسها. عليهم مقارعة قادة الرأي الفرنسيين الحجة، وإقناعهم بضرورة الانضمام لقوى التجريم. لقد نجح رجال الثورة التحريرية في نقل الثورة إلى فرنسا نفسها، وكسبوا الكثير من الفرنسيين إلى قضيتهم، وجعلوا الرأي العام الفرنسي يخرج في مظاهرات ضد سياسة حكومة بلاده، فكيف يعجز جيل اليوم، بما يملك من إمكانيات الاتصال، في نقل النقاش حول التجريم إلى فرنسا؟ لا يجب أن يبقى المطلب والمسعى جزائريان فقط، بل لابد أن يكونا فرنسيين أيضا. من مصلحة أحرار فرنسا، وهم كثر، أن يصفوا قضايا التاريخ مع الجيل الجزائري الحالي الذي يعرفونه ويعرفهم حتى لا يضطر أبناؤهم وأحفادهم للتعامل، في نفس الموضوع، مع جيل آخر من الجزائريين سيكونون بالتأكيد أكثر وطنية وأشد تمسكا بالاعتراف بالجريمة ضد الإنسانية وأقدر على استعمال كل وسائل الضغط على مستوى العلاقات الثنائية والدولية. الأجيال الجزائرية المقبلة، ستكون وعلى عكس ما يعتقد سياسيو فرنسا، أكثر وطنية من الأجيال السابقة. الجيل الجديد، ونحن نلمس ذلك منه يوميا في مدرجات الجامعة، هو أكثر ارتباطا بالجزائر وبحقوقها التاريخية حتى من مفجري ثورة التحرير الكبرى. إنه جيل متفتح على آخر المخترعات العلمية والتقنية ولا يحمل عقد الماضي ولا يخشى قوة فرنسا ولا ملفاتها. هو جيل مطلع على المعلومات والصور والوثائق حول جرائم الاستعمار التي لم تعد مخفية أو ممنوعة من التداول، كما كان الوضع منذ استعادة السيادة الوطنية حتى بداية التسعينيات، بل هي متوفرة على شبكة الانترنيت وعلى صفحات الجرائد وفي الكتب التي تظهر من حين لآخر. الجيل الجديد، من أبناء المهاجرين بفرنسا نفسها هم أيضا جد مرتبطين بالوطن ويتابعون عن كثب كل ما يجري فيه من أحداث وقد أعلنوا، في أكثر من مناسبة، عن تعلقهم بوطنهم الأصلي. هؤلاء سينظرون دوما إلى جيرانهم الفرنسيين على أنهم أبناء وأحفاد من مثلوا بجثث الرجال وبقروا بطون النساء وحرقوا الغابات وجعلوا الحياة مستحيلة في جزء كبير من الصحراء الجزائرية. كل هذه الأسباب وغيرها، تجعل مسألة تجريم الاستعمار مسألة فرنسية بالدرجة الأولى، لأن فرنسا المتحررة من تبعات تاريخها الاستعماري ستكون أقوى في المنطقة المتوسطية وأكثر مصداقية مع الشعوب وأقل عنصرية في تعاملها مع دول الجنوب وستجعل أجيالها المقبلة تعيش في وئام مع أجيالنا الآتية. إن تمكن الجزائريون من توعية فرنسا بأهمية وفائدة الاعتراف بجرائمها بالجزائر، خلال الحقبة الاستعمارية، فسيكونون قد ساهموا في تحرير فرنسا ثلاث مرات: مرة من الجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى من النزعة الاستعمارية التي كادت تدمرها، ومرة ثالثة من تاريخها المثقل بالجرائم ضد الإنسانية.