جاء المفكر الفلسطيني )إدوارد سعيد( وألقى حجرا في البركة الراكدة، بركة الإستشراق في عام 1978. وما أقل المفكرين العرب الذين يعيشون في الغرب ويقوون على زحزحة ما يسمى بالباب العملاق، ذلك أنهم في مجملهم يفكرون بعقليات جديدة أثرت فيها المفاهيم الغربية في المقام الأول، ولا أقول المناهج الغربية، ذلك لأن المفاهيم التي ترسخت في هذا الشأن شيء، والمناهج العلمية شيء آخر. ولست في حاجة إلى أن أقدم الدليل على ذلك. وقامت الدنيا ولم تقعد حين طوح إدوارد سعيد بحجر نحو البركة الرائدة فأثار ذبابها وناموسها وهوامها وكل الحيوانات التي تزحف أوتدب أوتقف على قوائم طويلة وقصيرة. ولعل أشدها خطرا وأقواها على نفث السم الزعاف، إنما هي تلك التي لها علاقة بالصهيونية. إذ ما أشد ما عانى إدوارد سعيد منها، خاصة بعد المرض الذي دهمه وقضى عليه في عام 2003، وبعد وفاته مباشرة. فلقد انبرى له عدد من المفكرين الصهاينة وراحوا يحاولون تلطيخ سمعته الشخصية أولا بأول، مستعينين في ذلك بالمال وبمن يجندونهم من أهل الفكر والصحافة بصورة عامة. وانبرى له أيضا بعض المفكرين الغربيين الذين كانوا أشد منهجية في نقدهم لكتاباته، ولكتابه الشهير )الإستشراق(. أجل، جاء من يتحدث عن الفكر الحداثي بعد إدوارد سعيد وما بعد الكولونيالية، والعلاقة بين الشرق والغرب، لكن القادمين الجدد إلى عالم الفكر لم يخرجوا في معظمهم عن المقولة الكلاسيكية التي رفعها في مطالع القرن العشرين، الأديب البريطاني (رديارد كيبلنغ) وهي أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا! ابتعد المفكرون الجدد عن بحث مسألة الإستشراق لأنهم وجدوا أنفسهم مدحوضين حيال ما جاء به إدوارد سعيد، وبدلا من أن تتطامن موجة الحقد على كل ما عربي ومسلم في العالم الغربي، ازدادت عنفوانا بعد حوادث 11 سبتمبر 2001 بوجه خاص. وجد أولئك المفكرون أنفسهم يخوضون معركة وهمية هي أشبه ما تكون بتلك التي خاضها دون كيشوت في مطالع القرن السابع عشر في رواية )ميجل سرفانتس(. وقبل ذلك، جاء المفكر الأمريكي الياباني فوكوياما وفعل نفس الشيء، ولكن في مجال آخر، حين سار عكس التيار الفكري الكلاسيكي وقال ما معناه إن التاريخ انتهى، وإن الرأسمالية هي آخر المطاف الذي ينبغي أن تحط عليه الإنسانية جمعاء. وبعده بقليل، جاء من تحدث عن الصدام بين الحضارات، وهو محق في قوله، ذلك لأن الحضارات تتصادم، لأن الإنسان يتصادم مع أخيه الإنسان، أو إن الخلق بحسب التعبير القرآني الكريم يتدافعون فيما بينهم، ولكن بغاية البناء، وليس بغاية الهدم كما تصور صاحب هذه النظرية. والسؤال الآن هو التالي: هل غاب إدوارد سعيد في زحمة التاريخ على إثر النقد السلبي الذي وجه له؟ وهل سيخلفه في العالم الغربي خلف عربي قادر على قيادة السفينة الفكرية وخلخلة جميع الأقاويل المزعومة التي انتقصت منه ومن العالم العربي الإسلامي؟ الأيام هي التي ستقدم لنا الجواب في هذا الشأن لا سيما وأن العالم ما زال يصطخب بالعديد من الأحداث.