لست أبالغ أو أروّج للخرافة إذ أكتب ما يلي بل أنقل حقيقة اجتماعية وروحية متجذرة في القرى التي تقع غرب ولاية برج بوعريريج وشرق ولاية البويرة، هي الارتباط الروحي العميق بزاوية بلعموري الرحمانية، والتي رحل شيخها سي محمد النذير بن يوسف قبل أيام قليلة إلى جوار الرب. فمثلا في قرية أولاد جحيش حيث ولدتُ وكبرتُ والتي تبعد عن مقر الزاوية تسعين كيلومترا لا تكاد تخلو عائلة من فرد يحمل اسم بلعموري، أو يخلو صندوق لامرأة متزوجة أو هي على أهبة الاستعداد للزواج من إحدى بركات الشيخ، متمثلة في شمعة أو قطعة قماش أخضرَ أو صرة من التمر أو الفول السوداني أو السكر أو الملح، وهي بركة عادة ما توضع تحت رأس المولود الجديد حتى لا تصيبه العين، أو رأس المريض حتى يستعيد عافيته. كما يستحيل أن يخلو قطيع من قطعان الأغنام من كبش يسمى كبش بلعموري، حيث يعمد الموّال بداية موسم ولادة الغنم إلى انتقاء أجود الخراف وينويه للشيخ فيكبر مدللا فوق العادة، بحيث يحظى بأجود أنواع العلف، وببقايا الكسرة والطعام، ولا تفارق الحناءُ جبهته الغراء، ما يجعل منه أليفا يغشى حتى غرف النوم، ومن هذا الذي يجرأ على نهر كبش الشيخ؟، لقد كنا نتعامل معه كما لو كان الشيخَ نفسَه. مرة كدت أن أفقد حياتي بسببه، إذ كلفني جدني بأن أسوق القطيع إلى وادي التشيرة كي يشرب، فظهر لي وأنا الطفل الشقي أن أتخذ من كبش بلعموري مطية في الطريق كأنه حصان، وفعلا فقد كان يبدو كذلك لعيشه الرغيد، ولأنَّ حظي كان سيئا ذاك اليوم فقد رآني جدي، ولكم أن تتصوّروا كعكة الضرب التي أكلتها في ذاك الضحى، لقد كان يحملني ويقذف بي باتجاه شجرة الزعرور حتى يتطاير الدم من رأسي وهو يصيح: هل تريد أن تجلب الشر للعائلة بإهانتك لكبش الشيخ؟، وقد عمد حتى يتجنب ذاك الشرَ المتوقعَ إلى اتخاذ قرار فور عودة القطيع إلى الزريبة تمثل في تسمية كبش آخر على الشيخ عوض الكبش المهان، وطبعا فقد سارعت الجدة إلى تحنية جبهته فورا، ولمن يهمه أن يعرف ما كان يؤول إليه مصير الكبش المقدس في تلك القرى التي لم تحظ بالكهرباء إلا مطلع التسعينيات، فقد كان إما يباع في السوق المشتركة للأعراش ويرسل ثمنه إلى الزاوية، وإما يساق بشحمه ولحمه حيا إلى الزاوية رفقة أطفال العائلة وعرائسها الجديدات لنيل البركة. ليس هذا فقط بل إن سكان هذه القرى لا يقطعون أمرا مهما كان صغيرا دون استشارة الشيخ، من قبيل شراء سيارة أو جرار أو بغل أو فرس قبل ذلك، أو بيع أو شراء قطعة أرض، أو زواج أو طلاق، أو ختان أو ذهاب إلى الطبيب أو الاكتفاء بالأعشاب، كما يعودون إليه في كل نزاعاتهم في البيوعات والشراءات أو حدود الملكيات العقارية . وقد شاهدتُ الشيخَ في كل الزيارات التي رافقتُ فيها عائلتي يصغي للجميع رغم كبر سنه [ من مواليد 1921، ستون سنة منها في المشيخة]، ويطلق نصائحه التي يتلقفها الزوار بدون نقاش منحازا للحكمة والعلم وبعد النظر. وقد كرّس هذه الثقة بين الشيخ والناس في أولاد جحيش مثلا ما سمعوه عن كراماته من قبيل أن مدافع الجيش الفرنسي تعطلت حين وجهها إلى الزاوية ليهدمها بسبب لجوء المجاهدين إليها، وما شاهدوه بأعينهم من قبيل قصة الرجل الذي هاجر إلى فرنسا أثناء الثورة ولم يعد إلى القرية حتى نهاية الثمانينيات فاشترى أرضا وتزوج، وحين قيل له عليك قبل أن تفعل هذا أن تستشير الشيخ بلعموري قال فيه كلاما قبيحا، فشلَ تماما ولم يُشفَ إلا بعد انتقاله إلى الزاوية واعتذاره للشيخ الذي قال له: »يا ولدي كنت في غنىً عن استشارتي فيما أنت حر فيه، إذ ليس موجودا في الكتاب والسنة أن تستشيرني في زواجك، لكن لماذا تسبني وتسب جدودي؟«. وقد رحل إلى جوار ربه، أجدني اليوم أقر له بفضل عليَّ لن أنساه له ما حييتُ لأنه أعانني كثيرا في حياتي، وهذا الفضل هو أنه قال لعائلتي قبل أن أولد بشهرين: سيولد لكم ذكر بإذن الله تعالى أسموه رزيق، ولا تسألوه أبدا من أين جاء أو إلى أين هو ذاهب، وسيكتب كتبا يقرؤها الناس جميعا، وسيسلط اللهُ عقابَه على كل من يكذب عليه، وما همني في هذا كله أنني استمتعت ولا أزال بحرية مطلقة منذ كنت رضيعا بسبب نصيحة الشيخ للعائلة: لا تسألوه من أين جاء أو إلى أين هو ذاهب، حتى أنهم كانوا لا ينهرونني وأنا أتوجه صغيرا إلى الكانون فكنت أخرج بحروق كثيرة في موسم الشتاء... رحمة الله عليه.