محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr لئن كانت مصر هبة النيل حسب قول المؤرخ اليوناني »هيرودوت« فإن عرش عمراوة هو هبة وادي سيباو (ناحية مدينة تيزي وزو وضواحيها وفحوصها). فمن المعلوم أن السكان في منطقة الزواوة (القبائل) يستقرون في الجبال الحصينة بعيدا عن السواحل وأحواض الأنهار الخصبة التي تسيل لعاب القوات الأجنبية الطامعة في خيرات هذه السهول، لذلك فمن الطبيعي أن يظل حوض وادي سيباو غير آهل بالسكان تستغله الأعراش المحيطة به كآث جناد وآث واقنون وآث يراثن وآث يجر. غير أن هذه الوضعية لم تلبث أن تغيّرت بقدوم الأتراك العثمانيين إلى منطقة القبائل منذ القرن السابع عشر الميلادي. هذا والجدير بالذكر أن المعلومات الخاصة بهذا الوصول مازالت شحيحة لا تشفي غليل الباحث والدارس، وعلى أي حال فإن المعروف هو توقف الأتراك عند حوض وادي يسر أين شيّدوا حصنا عسكريا يدعى »برج أمناين« بعرش إفليسن أومليل (برج منايل حاليا) خلال القرن 17م. غير أن هذه الوضعية لم تلبث أن تغيّرت بعد تعيين علي خوجة مسؤولا على المنطقة في حدود سنة 1720م. ويعد هو المؤسس الفعلي لنفوذ الأتراك في منطقة القبائل، ولعل أبرز إنجازاته في هذه المنطقة، إنهاء نفوذ أسرة بختوش التي تعد امتدادا لإمارة آل القاضي الشهيرة بمنطقة الزواوة إثر انتصاره على حند واعلي أوبختوش في ذراع بن خدة. وكذا تأسيس »قبائل المخزن« المتعاونة مع الأتراك بعد استقدام عائلات عديدة ذات أصول مختلفة إلى المنطقة (عرب أتراك عبيد...) بالإضافة إلى تشجيع السكان المحليين على النزول من جبالهم. وفي هذا السياق، أسس علي خوجة قرية عبيد شملال عمّرها العبيد بغرض تزويد برج تيزي وزو بالخضر، ثم لم تلبث أن تحولت بمرور الزمن إلى قرية »مخزن« تزود الأتراك بالفرسان. ومن أعماله الأخرى تشييد أبراج عسكرية أهمها برج سيباو (قرب بغلية حاليا) وبرج تيزي وزو. كما أنشأ عدة أسواق أسبوعية قصد السيطرة على أهالي الجبال وفرض الضرائب على منتوجاتهم الزراعية والحيوانية أبرزها سوق الإثنين (قرب بغلية) وسوق السبت (قرب ذراع بن خدة) نقل فيما بعد إلى تيزي وزو فصار يدعى (سبت الخوجة) نسبة إلى علي خوجة. هذا ومن أشهر الشخصيات التركية البارزة بعد علي خوجة، المدعو الباي محمد بن علي الذباح وهو من مواليد مدينة البليدة لكنه ترعرع في منطقة القبائل ودرس بزاوية آث اعمر بعدني ذات الأصل التركي، ثم بزاوية ابن أعراب (بعرش آث يراثن)، ثم تولى مسؤولية القيادة بتيزي وزو، ليرقى بعد ذلك إلى منصب الباي على بايلك تيطري الذي كانت منطقة الزواوة تابعة له. وبحكم معرفته للمنطقة فقد حاول كسب ثقة أعراش القبائل بزواجه من إحدى بنات عائلة بختوش. وأهم ما ميّز فترة حكمه صرامته وشدته في معاملة أهالي المنطقة حتى لقب بالذباح لكثرة من اغتالهم، ولا شك أن ذلك قد جلب له عداوة الأعراش. وعلى أي حال فقد استقر في عهده تنظيم عرش عمراوة بتقسيمه إلى قسمين: عمراوة الفواقة شرق برج تيزي وزو بقيادة آث قاسي الذين اتخذوا من قرية ثامدة مقرا لهم. وعمراوة التحانة بقيادة عائلة أولاد محي الدين التي اتخذت »ثاروقة« مقرا لها. والجدير بالذكر، أن العائلتان كلتاهما طارئتين على المنطقة، إذ قدمت الأولى (آث قاسي) من الحضنة (قلعة بني حماد) واستقرت »بثامده« بترخيص من عرش آث واقنون، أما العائلة الثانية (آث محي الدين) فقد جاءت من ناحية أولاد بليل بالبويرة. ويبدو أن الباي قد ذهب ضحية سياسته الترهيبية التي ألّبت ضده معظم الأعراش، فقتل بآث يراثن سنة 1754م، ثم نقله أتباعه إلى ناحية »قورصو« حيث دفن في أملاكه ومازالت قبة قبره تبدو للنظر على يمين القادم من الشرق في إحدى مرتفعات بودواو. ولعل ما يبرز توتر العلاقة بين الزواوة والأتراك، المكيدة التي دبّرها القايد إسماعيل في برج سيباو لأعيان عرش عمراوة حيث دعاهم إلى تناول طعام الإفطار في أحد أيام رمضان لسنة 1820م، وقد جرت العادة عند الأتراك أن يترك الضيوف أسلحتهم عند شاوش البرج، وأسفرت الخديعة عن اغتيال محمد أوقاسي وعلي الحفاف من تيزوزو ومنصور بوخالفة، والأخوة أزواو: أحمد وعلي والحسين من قرية ثيقوبعين، ولم ينج القايد التركي إذ قتله محمد أوقاسي بمسدس كان قد أخفاه في ثيابه. وظلت هذه الحادثة المؤسفة تلقي بظلالها على العلاقة بين الطرفين إلى أن تعرضت الجزائر للاحتلال الفرنسي. ومما تجدر الإشارة إليه أن عرش عمراوة قد شارك في معركة اسطاوالي لصائفه 1830م تحت قيادة »أعمر أوسعيد ناث قاسي« (عمراوة الفواقة) وقيادة عمر بن محي الدين (عمراوة التحاتة) وتحت إشراف الزعيم الروحي الشيخ محمد أمزيان بوخالفة. وعندما برزت المقاومة المنظمة تحت إمرة الأمير عبد القادر انضم الزواوة تحت لوائها منذ سنة 1835م، وهو التاريخ الذي عيّن فيه الأمير عبد القادر المدعو الحاج علي بن سيدي سعدي خليفة له. ثم لم يلبث أن عوضه في اجتماع البويرة سنة 1838 بالسيد أحمد الطيب بن سالم، يساعده بلقاسم أوقاسي في عمراوة، والحاج محمد بن زعموم ممثلا عن عرش إفليسن أومليل، ثم سي الجودي ممثلا عن أعراش إقاواون (جرجرة). وللذكر فقد زار الأمير عبد القادر منطقة القبائل سنة 1839م رفقة خليفته إبن سالم زار خلالها البويرة، بوغني، زاوية سيدي علي أوموسي (معاثقة)، عمراوة. وقد حظي باستقبال حار من طرف السكان خلافا لما روّج له الجنرال أوجين دوماس، وجوزيف نيل روبان في كتاباتهما التاريخية الكولونيالية المزيفة. ثم عاد إليها ما بين 1845 / 1846م. وبالنظر إلى القوات الكبيرة التي جندها الماريشال بيجو فقد تغلب على أحمد الطيب بن سالم (خليفة الأمير) الذي فضل الهجرة إلى الشام في خريف 1847 بمعية الشيخ المهدي السكلاوي، رافضا منصب الآغا الذي عرض عليه، في حين قبله مساعده بلقاسم أوقاسي على الفور. هذا وقد استمر أحمد سالم يراسله طالبا منه الالتحاق به إلى الشام. وبالفعل فقد طلب بلقاسم أوقاسي من الإدارة الفرنسية سنة 1849م السماح له بالسفر إلى مكة، لكن طلبه لم يحظ بالقبول وأقنعه الفرنسيون بالعدول عن قراره وهو ما تم بالفعل. وفي جانفي 1856م عاد أحد أبناء عائلة آث قاسي المدعو بن علي من تونس التي كان قد رحل إليها وانضم إلى المقاومة تحت لواء الشيخ الصديق بن أعراب متحديا بذلك عمه الآغا محمد أوقاسي، وسرعان ما امتد لهيب الثورة إلى كل أراضي عمراوة الفواقة باستثناء مدينة تيزي وزو حيث مقر الجيش الفرنسي الذي كان تحت قيادة النقيب »بوبريط«. كما تجاوب سكان الأعراش القريبة مع اندلاع الثورة. وقد دفعت انتفاضة عمراوة الماريشال »راندون« إلى إعادة تنظيم قواته بدعمها بالعدة والعدد. ومن جهة أخرى صدر مرسوم حكومي في أكتوبر 1858م يقضي بإنشاء مستوطنة تيزي وزو في قلب عرش آث عمراوة. ظل أهالي عمراوه يناصرون المجاهدين ويتعاطفون مع جميع الثروات التي عرفتها منطقة القبائل، علما أن أفراد عائلة آث قاسي قد انقسموا على أنفسهم بين موالٍ لفرنسا ومناصر للجهاد ضد فرنسا، بل وأكثر من ذلك فقد شعر الموالون لفرنسا بتأنيب الضمير، خاصة بعد تقليص صلاحياتهم لصالح الإدارة المباشرة التي كرسها الماريشال »راندون« لذلك قيل إن »علي أوقاسي« الذي عيّن باشاغا بعد وفاة والده محمد أوقاسي سنة 1860م كان يقضي معظم أوقاته في أملاكه بقرية ثامدة بعيدا عن مقر قيادته بمدينة تيزي وزو. وعندما أعلن زعيم الطريقة الرحمانية الشيخ محند واعلي القاضي (من بوهنون) اندلاع الثورة في عرش عمراوة وما جاوره، انضم إليها القايد علي أوقاسي، ولم تفلح القوات الفرنسية بقيادة الضابط (وولف) في مباغتته في ثامدة، بل اضطر إلى الانسحاب نحو (السيخ أومدور) شرق مدينة تيزي وزو. وفي يوم 17 أفريل 1871م جمع القايد علي أوقاسي قوات كبيرة حاصر بها تيزي وزو من جميع الجهات لمدة عشرين يوما. ولم يفك الحصار إلاّ بعد قدوم قوات فرنسية كبيرة من مدينة الجزائر. أما في عمراوة »التحاتة« فقد تزعم الحاج عمر ولد محي المقاومة، ولم يقضِ عليها العقيد »فوشول« إلا بعد جهد جهيد. هذا وقد اعترف في كتابته بارتكاب جرائم نكراء في معركة ثاورقة، فضلا عن نهب وحرق القرى المجاورة وكان ذلك في مطلع شهر ماي 1871م. وبالنظر إلى النهاية المأساوية لثورة 1871 في منطقة القبائل، فقد عرف عرش عمراوية التداعيات الخطيرة الناجمة عن الهزيمة من نهب وحرق للقرى وقتل الأهالي واعتقال القادة، ونفي بعضهم إلى كاليدونيا الجديدة، ومصادرة الأراضي وفرض غرامات باهظة على السكان، ونجد في مقدمة المتضررين عائلات: آث قاسي وآث منصور ببوخالفة وأولاد محي الدين بثاوقة وعائلة ابن الحفاف بتيزي وزو، وعائلة الشيخ محند أمزيان من بوخالفة. والجدير بالذكر، أن هذا الأخير قد فضل الاعتصام بالجبال متمردا على فرنسا إلى شهر ماي 1877م حيث استشهد في ناحية دلس بعد قتله لجنديين وجرحه سبعة آخرين. أما »القايد« علي أوقاسي وابن عمه محند أمقران فقد تم نفيهما إلى كاليدونيا الجديدة، في حين حكم على محند السعيد بن بلقاسم أوقاسي وابن عمه اعمر أوقاسي بالسجن لمدة خمس سنوات. أما الحاج عمر ولد محي الدين وابناه علي وحاج السعيد فقد حكم عليهم بالسجن لمدة خمس سنوات، في حين أعدم إبنه أحمد في بغلية، فضلا عن استشهاد ابنه إسماعيل في خضم أحداث ثورة 1871. الهوامش: - تاريخ تيزي وزو، محمد الصغير فرج، ترجمة موسى زمولي، منشورات ثاله 2002. - Dictionnaire de la culture berbère en Kabylie, C. L. Dujardin Edif 2000. - Histoire de la grande Kabylie, Alain Mahé, éditions Bouchène. - La grande Kabylie sous le régime turc, J. N. Robert, éditions Bouchène 1999