ما أقرب اليوم من الأمس وما أشبهه به شكلاً ومضموناً، أعني ذلك اليوم من شهر أيار/مارس 2008 الذي شاهدت فيه جورج بوش على شاشة الجزيرة في الكنيست الصهيوني في المكان ذاته، بين شمعون بيريس وداليا اتسك.. حيث جلس وألقى خطاباً متميزاً بحماسته وانحيازه للعدوان والصهيونية والعنصرية وإرهاب الدولة.. حيث جلس الرئيس ساركوزي رئيس جمهورية فرنسا وألقي خطابه بحماسة مشابهة لحماسة نظيره الأميركي. استمعت إلى ساركوزي يشدد على حروفه ويشد قبضته ويكاد يهوي بها على خشب المنصة أمامه مبجلاً ومعظماً " إسرائيل.. معجزة القرن العشرين" كما وصفها من قبل، ومنحازاً لإرهاب الدولة النازية الجديدةولجده اليهودي البولندي.. ضد الإنسانية المظلومة الممثلة في الفلسطيني المقتلع من أرضه والملاحق في وطنه والمضطهد على مرأى ومسمع من عالم بائس بليد لم تعد تعني له الأخلاق والعدالة شيئاً.. عالم يعجب بالقدرة على الخلط والكذب والنفاق وتشويه صورة ومقاومة شعب يتصدى للاحتلال والعدوان.. عالم يسود فيه منطق القوة وتضعف فيه قوة المنطق. في خطاب الرئيس ساركوزي لم أر أن فرنساه بعيدة كثيراً عن فرنسا الاستعمار في القرن العشرين التي تتباهى بقوتها وانحيازها ومستعمراتها وإرهابها الفظيع الذي تنمذَج في الجزائر وترسخت صورته في المحارق الجماعية الفظيعة هناك، ولكنها بعيدة جداً عن روح الثورة الفرنسية التي أسست العهد الجمهوري وقالت بالحرية والعدالة والمساواة وأحبتها الشعوب.. فساركوزي الرئيس لم يهضم بعد، فيما يبدو، تلك القواعد الثلاث ولا أظن أنه يمكن أن يهضمها لأنه سليل الغيتو والعنصرية اليهودية، ولذا انحاز ببساطة ضد الحرية والعدالة والمساواة، ولم ير الفلسطيني الأصيل في أرضه الأصلية التي عاش فيها قبل أن يغزو يوشع أرض الكنعانيين بآلاف السنين، وقبل أن يأتي موسى باليهودية ويخرِج أتباعه من أرض فرعون ليمروا مروراً بتاريخ فلسطين الكنعاني العربي وبالقدس التي أسسها اليبوسيون العرب، بل رأى في مكان الفلسطيني الأصلي الأصيل، يهودياً إنزرع في هذه الأرض المقدسة بقوة السلاح والتآمر الأوربي وشكل بهمجيته ونازيته معجزة، وأعيد بعد ألفي سنة إلى أرض شعب عاش في هذه الأرض منذ آلاف السنين ولم يغادرها أبداً. الرئيس الفرنسي معذور على نحو ما، فهو معجب بإسرائيل أيما إعجاب، ويرى نفسه وفق قوانينها مواطناً فيها على الرغم من أنه يحمل جنسية فرنسية ويمثل فرنسا.. ومن واجب المواطن أن يخلص لوطنه ويدافع عنه، فمن قال إن ساركوزي ليس ابن جده اليهودي البولندي وابن الدول العبرية والمهتم بمواطنه المزدوج الجنسية مثل "جلعاد شاليط"؟ إن إسرائيل دولة اليهود في العالم وهو، إذا نزعنا قشرة الموز عنه، من يهود العالم، وعلمانيته لم تستطع أن تستنكر دولة دينية يهودية خالصة، في حين استنكرت مواقف عدة لعرب ومسلمين دافعوا عن دينهم وعن أنفسهم وأوطانهم. وساركوزي ينظر إلى إسرائيل بعين الإعجاب وليس بعين الرضا فقط فلا يرى إلا الديمقراطية المتألقة في حوض غير ديمقراطي وينسى أنها دولة ليست "لجميع سكانها أو مواطنيها"، وأنها دولة محتلة وعنصرية وتمارس الإرهاب وتضع أكثر من أحد عشر ألف مدافع عن الحرية والاستقلال في المعتقلات والسجون.. ولا يرى في إبادتها المستمرة للشعب الفلسطيني سوى نوع من الدفاع عن النفس وتثبيت الوجود ضد من يريدون أن يزلزلوا وجودها، وهي التي زلزلت قواعدهم وجودهم وانتزعتهم من أرضهم واستولت على وطنهم وشردتهم في أربعة أركان الأرض.؟ إنه يطلب لهم " دولة" ولكنها محمية إسرائيلية تحت السيطرة الشاملة الكاملة. لم يقدم الرئيس ساركوزي لإسرائيل شيئاً جديداً فريداً بل تعهدات مشابهة لتلك التي قدمها لها جورج بوش مع تلافي نبرة النبوة البوشية، وفرنسا قدمت لإسرائيل دعماً تاريخياً مستمراً عبر مراحل عدة منذ سايكس بيكو 1916 وحتى ساركوزي مروراً بالمفاعل النووي في ديمونة، وها هو يقول لها اليوم: "إن فرنسا لن تتخلى عن خيارها التاريخي بدعم دولة يهودية لجميع يهود العالم.. دولة دينية صافية.."، لقد نسي فقط أن يجمع عدد سكان فرنسا وعدد سكان الكيان الصهيوني في تعداد سكاني واحد كما فعل جورج بوش.. أما الفلسطينيون المهجَّرون من وطنهم فلا عودة لهم ويبقى من حقهم أن ينالوا تعويضاً هو ثمن وطن لمن يرون أن الأوطان تباع وتشرى وتعوّض، ويجب أن تقام لهم دولة لكسب اعتراف العرب والمسلمين بالدولة العبرية والهدف من إقامتها والمحرض عليه هو الحفاظ على أمن إسرائيل الذي بدأ يتزعزع وفق التحليل الاستراتيجي بعد هزيمة آب 2006 وصمود حماس وبروزها نداً وطرفاً في التفاوض وتوصلها إلى اتفاق "التهدئة" تماماً كما برز حزب الله في عام 1996 نداً وطرفاً في التفاوض والتفاهم والاتفاق وتوصل إلى اتفاق نيسان. رئس جمهورية فرنسا لم ينس يهودية أسرته ومن ثم لم يخف انحيازه لصهيونيته وللأغصان والأوراق الخضراء العائدة إلى جذورها بعد ألفي سنة، ولدولة يراها الديمقراطية الأقوى في المنطقة التي ينبغي أن تمد يدها للضعفاء، والدولة التي ينبغي أن ترتاح من الحرب لتتفرغ للبناء وتعليم الأخلاق التي لم يجئ هو ليعلمها إياها؟ إنه جاد جداً في استشعار الخطر على مستقبل إسرائيل، ويرى أن المحافظة على وجودها تتم بالسلام الذي يريحها من عرب ومسلمين يريدون الحرية والتحرير.. وهو على صواب في نظرته التي يجب أن يرفضها الفلسطينيون أولاً والشعب العربي ثانياً.. ولا أتكلم عن الحكام العرب الوسطاء وغير الوسطاء بين العدو الصهيوني والدم الفلسطيني المستباح. الرئيس ساركوزي على حق لأنه أدرك تغير قواعد المواجهة منذ تموز 2006، وهو على حق لأنه رأى إمكانية صحوة ونهضة علمية إسلامية يمكن أن تغير ميزان القوة في المنطقة وعلى رأسها نهضة إيران التي رأى فيها خطراً على "إسرائيل" كما لم يكن ولم يعد العرب خطراً عليها، وهو يعرف من دون حاجة للتصريح أن هناك رسميين في وطن العرب على استعداد لتقديم أوطانهم وشعوبهم رهائن في سبيل البقاء على كراسيهم وهذه فرص سانحة ومن الغباء إضاعتها، ورأى يهوداً يهاجرون من فلسطينالمحتلة ينشدون الاستقرار ويخافون من المواجهة، ورأى أجيالاً يهودية لم تعد تطيق الحرب وحمل السلاح بعد قرن من حمله.. ورأى مستوطنين يخافون من صواريخ حماس البدائية المشحونة بالإيمان.. ولذا جاء يحث على سلام يراه مكلفاً ولكنه أفضل من زوال الدولة "الأم" على المدى البعيد. لقد رأيت أولمرت يصفق وحيداً في حالات لدولة فلسطينية وللجم المستوطنين، وربما كان هذا نتيجة لإدراكه حقيقة الوضع وليس نتيجة لوضعه الخاص بعد الفضائح ولرؤيته المبنية على الوقائع خاصة بعد تقرير لجنة فينوغراد. وساركوزي في مجيئه يحمل مشروعه المتوسطي الذي هو مشروع لمصلحة إسرائيل.. مشروع الاتحاد المتوسطي الذي يضم إسرائيل ودولاً عربية وأوربية وتركيا.. يا للعجب؟ اتحاد مع "إسرائيل"؟ إن هذه النغمة المتوسطية القديمة التي بدأت في إيطاليا، حيث عقد اجتماع حضرته بعض دول المتوسط في باليرمو صقلية صيف عام 196 لهذا الغرض، وتنقل المشروع الفاشل من عاصمة أوربية إلى أخرى بأثواب وحلل وعناوين، واستمر عبر برشلونة وغيرها، وكلها مشاريع ترمي إلى دمج إسرائيل في المنطقة دمجاً شاملاً كاملاً وخدمتها وحدها على حساب العرب والمسلمين. وإذا ابتلع العرب مشروع ساركوزي فإن مؤشراً كبيراً سيبرز ليؤكد توجههم نحو الاعتراف الشامل بإسرائيل لقاء عظمة ما تلقى لهم وقيود جديدة تكبلهم وتدخلهم تابعاً للغرب والصهيونية لعقود أو قرون قادمة. في الثالث عشر من شهر تموز/ يوليو 2008 سوف يجتمع في باريس رؤساء دول في إطار دعوة ساركوزي للاتحاد المتوسطي، وهو يركز على إمكانية عقد لقاء ومصافحة بين أولمرت والرئيس بشار الأسد.. وفي شطارة من نوع خاص يشترط شروطاً في أثواب إغراءات، ويرمي قشور الموز في الشارع ليزحلق الآخر في الطريق إلى باريس: زيارة لدمشق لقاء... حضور مؤتمر باريس ولقاءٍ مع أولمرت وسفارة سورية في لبنان.. و.. حبل المطالب على الجرار.. موقف من المقاومة ومن إيران وتليين الموقف المتشددة في هضبة الجولان لا سيما الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا..؟! لا أستبق الأمور فأقول إن الرئيس الأسد سوف يستجيب أو يرفض ولكنه إن وقع في الفخ الذي ينصبه ساركوزي بضوء أخضر أميركي فسوف يكرر شمعون بيريس بتشدد ظاهر ما قاله لساركوزي في لقائه به قبل إلقاء الأخير خطابه أمام الكنيست: "على الرئيس الأسد أن يتعلم من السادات ويأتي إلى القدس ليتكلم أمام الكنيست ويطلب السلام". لقد أعادني خطاب ساركوزي في الكنيست إلى الحالة ذاتها التي كنت فيها وأنا أستمع لخطاب بوش من قبل في المكان ذاته قبل شهر ونيف من الزمان، مع فارق طفيف في الدرجة.. وحاولت أن أتمثل حالة أخي المقاوم الفلسطيني وأستشعر شعوره.. هل تراه يقبل ويرضى؟ وما هو رد فعله في ضوء التفكك العربي والفلسطيني الراهن، وما هو مستقبل الاتحاد المتوسطي الذي يحمل ساركوزي رايته ويطوف بها في بلدان عربية في المغرب والمشرق؟ هل يصبح الرسميون العرب والكيان الصهيوني في اتحاد متوسطي على جثة قضية فلسطين واستقلال العرب؟ ولمن سيوجه العرب حراب اتحادهم الجديد؟ هل لإيران أم لدول وكتل دولية إسلامية أخرى من أجل أن ينتعش ويمر بتجارب وامتحانات تثبت الكيان الصهيوني في عمق تكوينه؟ لم أستغرب مطلقاً حماسة بوش وساركوزي وبلير.. والغرب كله لمشروع الكيان الصهيوني ولجمع العرب والصهاينة في تحالف.. فذاك عمل يكمل المشروع الاستعماري الأساس وينطلق من رؤية غربية لمصلحة إسرائيل ومستقبل الوطن العربي والمنطقة ولدورهم فيها ومشاريعهم المصممة لمستقبلها.. إن ما أستغربه هو تحوّل رسميين ومثقفين وإعلاميين عرباً من نُشدان التحرر إلى نشدان التبعية، ومن مقاومين إلى متصدين للمقاومة العربية والمساهمة في محاصرتها وقهرها والقضاء عليها، ونبذهم لكل من يقف مع مقاومتهم وقضاياهم موقفاً إيجابياً واتخاذه عدواً، وتصديهم بحماسة لا نظير لها لما تبقى من قوى الصمود لدى شعبهم وقوى التحرر في داخلهم.