ظهرت كلمة مازيغ لأول مرة كما نعرفها اليوم وكما تُلفظ حاليا لدى المؤرخين العرب وأقدمهم في هذا الشأن هو ابن حزم الأندلسي من مؤرخي القرن العاشر وابن خلدون الحضرمي من مؤرخي القرن الرابع عشر، حيث قالا إن مازيغ هو أب الأمازيغ وينحدر من ولد كنعان. فالفضل في ذلك يعود لهما وقد نقلها عنهما غيرهم، لأن الشائع كان لفظ بربر الذي أطلقة الإغريق على قدماء سكان بلاد المغرب ونقلها عنهم الرومان وأصبحت علما يطلق على هذا الشعب حتى وقتنا الحاضر. ومع حلول الاستعمار الفرنسي بالجزائر ظهر مدلول آخر للكلمة ونعني به "الأحرار". وهو مدلول أورده لأول مرة الكاتب العسكري الفرنسي إميل كاريت في مؤلفه "الاستكشاف العلمي للجزائر" الصادر في منتصف أربعينات القرن التاسع عشر ويتناول أصول القبائل الجزائرية. كان ذلك الكتاب بمثابة خريطة الطريق التي سلكتها القوات الفرنسية الغازية لاستعمار الجزائر وقهر شعبها وتطبيق سياسة فرق تسد بين أبنائها. والواقع أن هذا اللفظ سواء كان بمدلوله الأول أو الثاني صار يشمل كل المجموعات السكانية التي تواجدت في شمال أفريقيا قبل دخول الإسلام أي ما عرف تاريخيا بالبربر، وهم قدماء من عرف من السكان ومن اتصل بهم من الكنعانيين أي الفينيقيين وكذلك الرومان والوندال ومن رافقهم من السواف وكذا الروم أي البيزنطيين وهو ما ينفي عنه صفة الطابع العرقي. كما أن لفظ الأحرار هو مصطلح شائع لدى شعوب أخرى أطلقته على نفسها كقدماء الأحباش والفراعنة ولا يختص به سكان بلاد المغرب دون غيرهم. لما نتكلم عن المكون الأمازيغي ضمن الهوية الجزائرية نعني بذلك أن الهوية الجزائرية هي الهوية الجامعة للجزائريين وأن الأمازيغية والعروبة والإسلام هي مكونات تلك الهوية. لم يكن المكون الأمازيغي مغيّبا عن التحولات التي عرفتها الجزائر بل كان في صلب تلك التحولات. وقد أعادت الجزائر المستقلة للمكون الأمازيغي حضوره في الحياة الجزائرية قدر اهتمامها بالإسلام والعربية، حيث ركز الميثاق الوطني الصادر خلال منتصف السبعينات في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين في ديباجته على الحقبة النوميدية بوصفها أول جهد منظم قام به قدماء الجزائريين لبعث كيان قائم بذاته. وأبرز الميثاق بصورة أساسية دور الأكَلِّيدْ ماسينيسا وحفيده يوغرطا رمز المقاومة ضد الاستعمار الروماني. والرئيس بومدين الذي روجت حول موقفه من الأمازيغية شائعات لا تستند إلى أي دليل مفادها أنه سعى لتعريب الجزائر إلى حد أن "الأب لا يفهم ما يقوله الابن"، سمى نفسه الهواري نسبة لقبيلة هوارة الأمازيغية وهو الاسم الذي عرف به حيا وميتا، مما يؤكد اعتزازه بالبعد الأمازيغي متخليا عن اسمه الحقيقي محمد بوخروبة. وتبيّن لاحقا أن كل ذلك كان محض شائعات لا صحة لها. وفي عقد السبعينات كان مولود معمري هو المشرف على كرسي الدراسات الأمازيغية في الجامعة المركزية. ولعله من الأهمية القول إنه في فترة حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد وتحديدا خلال المؤتمر الخامس لجبهة التحرير الوطني الذي انعقد قُبيل منتصف ثمانينات القرن الماضي، تم الإقرار بإلغاء لفظ بربر من المناهج والكتب وفي الحياة السياسية وتم تعويضه بلفظ أمازيغ الذي كان استعماله محدودا وغير معروف لدى الكثير، وذلك بالرغم من شيوع لفظ بربر ورواجه إلى درجة أن الحركة المدافعة عن البعد الأمازيغي سمت نفسها الحركة الثقافية البربرية، وأن الجهد الفكري لتلك الحركة قادته الأكاديمية البربرية. كما أولت كل كتب التاريخ التي ألفها جزائريون منذ أيام الحركة الوطنية الجزائرية المكوّن الأمازيغي عناية خاصة. فالشيخ مبارك الميلي أفرد القسم الأكبر من كتابه الموسوعي "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" للعصر البربري حيث تحدث بتفصيل كبير عن البربر وتاريخ الدول البربرية التي عرفتها الجزائر. كما أفرد المؤرخ أحمد توفيق المدني قسما خاصا في مؤلفه القيّم "كتاب الجزائر" لتاريخ البربر والقبائل البربرية. وهذان الكتابان لمن يجهل تاريخ أسلافه، تم تأليفهما خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية وليس بعد الاستقلال. وكان الهدف من وضعهما التعريف بالشعب الجزائري الذي كانت فرنسا تنكر وجوده. فعملَهُما يندرج ضمن الدفاع عن الهوية الجزائرية التي عملت فرنسا الاستعمارية على إنكارها. وبعد الاستقلال ألف العديد من الجزائريين كتبا تتناول تاريخ الجزائر منذ القديم، نذكر منها أقدم كتابيْن ألفا في منتصف الستينات هما "الموجز في تاريخ الجزائر" للأستاذ يحيى بوعزيز و"تاريخ الجزائر القديم" للأستاذ سليمان الصيد. تعرض الكتابان لتاريخ البربر منذ الأزل وإبراز حضارتهم والممالك التي أقاموها. أما الكتب المدرسية في مادة التاريخ فمنذ الاستقلال إلى يومنا هذا تركز بصورة كبيرة عبر كل ما تكتبه على إبراز دور الأمازيغ وحضارتهم منذ فجر التاريخ. وتزخر المكتبات الجزائرية حاليا بسيل غير منقطع من الكتب حول الموضوع. وخلال منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي تم استحداث مؤسسة حكومية تابعة لرئاسة الجمهورية تعنى بقضايا اللغة والهوية الأمازيغية هي المحافظة السامية للأمازيغية، ولفظ أمازيغية هنا تعني الهوية الأمازيغية وليس مجرد اللغة التي يرمز لها بتمازيغت، في حين أن الهيئة الحكومية المكلفة بترقية اللغة العربية هي المجلس الأعلى للغة العربية ويتضح أنه لا علاقة له البتة بمفهوم العروبة كما ينص عليها الدستور، فمجال عمله لغوي بحت. ومع بداية الألفية الجديدة تم دسترة الأمازيغية كلغة وطنية ثم جرى ترقيتها لاحقا إلى لغة رسمية ويجري حاليا تعميم تدريسها لكافة الجزائريين بالرغم من جهل الغالبية منهم بالحديث بها أو فهم ما يُقال لهم نظرًا لأن حضورها الحقيقي لا يتجاوز مناطق محدودة واستعمالها اليومي الدارج لا يتجاوز تلك المناطق. ما ينبغي تسجيله أنه باستثناء أمراء دولة بني الأغلب، التي قامت في تونس الحالية وامتد نفوذها للجزائر حتى منطقة طبنة أي بريكة، فإن قادة كل الممالك والإمارات التي قامت في بلاد المغرب خلال العصور الوسطى كانوا كلهم من الأمازيغ وافتخروا بانتمائهم لآل البيت أو لقبائل وأسر عربية كما هو شأن الحفصيين حكام تونس الذين ينتسبون إلى أبي حفص الهنتاتي صاحب المهدي بن تومرت لكن الشائع أنهم نسبوا أنفسهم إلى أبي حفص عمر بن الخطاب وحرصوا على الاعتزاز بهذا النسب. كما قال بنو عبد الواد قادة الدولة الزيانية بتلمسان بأنهم من سلالة أولاد القاسم بن إدريس الحسني. واصطنع بنو مرين لأنفسهم نسبا عربيا بالقول إنهم من مضر. ونسب القائد المنصور بن بلكين بن زيري مؤسس الدولة الزيرية قومه صنهاجة إلى قبيلة حمير اليمنية. لقد أسست تلك الأُسَر دولا كبرى تبرز اعتزاز أسلافنا بالإسلام الذي نقلهم من عهد الاستعمار الثلاثي الروماني/ الوندالي/ الرومي إلى عهد التحرر وتأسيس الدول وقيادة الشعوب والمساهمة القيّمة في تقدم البشرية. وهذا ينفي نفيا قاطعا ما يروّج من أفكار حول عدم مساهمة الأمازيغ على غرار أمم أخرى في بناء حضارة ودول رائدة وأنه جاء اليوم دورهم للقيام بذلك. لقد تفطّن المؤرخون الفرنسيون للزخم التاريخي الذي شهدته الحقبة الاسلامية في بلاد المغرب فوصفوها بالعصور المظلمة بهدف طمس الجهد الأمازيغي الذي تجلى خلالها في أزهى صوره. إذ تم إقامة ممالك وإمارات قادتها أسر أمازيغية، أبرزها بنو زيري وبنو حماد والمرابطون والموحدون وبنو حفص وبنو زيان وبنو مرين. ويقول جوليان وهو من قلة المؤرخين الفرنسيين الذين عالجوا هذا الموضوع بنزاهة في متابعته لجهد الأمازيغ في تأسيس الدول وقيادتها إن المغاربيين تمكنوا بمحض جهدهم طيلة قرنيْن تقريبا من إقامة صرح سياسي شامخ يبدو أنهم لم يُقدموا على تشييده من قبل ذلك. يجدر بنا أن نُثَبّت هنا مجموعة من الحقائق التي سعى مؤرخو الاستعمار الفرنسي لطمسها. الحقيقة الأولى هي أن الأمازيغ أخذوا بمصيرهم في وقت مبكّر من التاريخ وأسسوا حواضر رائدة ولم ينتظروا مؤرخي فرنسا ولا ظاهرة العولمة وإفرازاتها ليعبروا عن أنفسهم. ولعل قيادة طارق ابن زياد للجيش الإسلامي الذي فتح إسبانيا في بداية القرن الثامن يؤكد ذلك. الحقيقة الثانية التي لا مناص من إعادة ذكرها مرارا وتكرارا هي أنه خلال الحقبة الإسلامية قامت منطقة بلاد المغرب بأدوار رائدة بين الأمم سجلها التاريخ ولا يمكن لأي شخص أن يطمسها ولم تكن تلك الحقبة مجرد عصور تخريب وتدمير وظلام وبداوة. الحقيقة الثالثة التي يجب إبرازها أن مؤرخي الاستعمار الفرنسي هم فقط من رسّخ في ذهن الجزائريين بأن الجزائر كانت أرضا للغزوات الخارجية لفرض قابلية غزوهم لهذه البلاد بينما العكس تماما هو الذي حصل، حيث أن الجزائر على غرار الكثير من بلدان العالم كانت ملتقى للحضارات وليست مجرد أرض للغزوات. الحقيقة الرابعة التي لا يجب نكرانها هي أن الصراعات التي قامت بين القبائل الأمازيغية للانفراد بحكم المنطقة هي التي أدت إلى التشرذم وإعاقة جهود أبنائها في التوحّد وظل ذلك الانقسام قائما حتى اليوم. لقد حدث ذلك في فترات مختلفة من تاريخ المنطقة وظهر واضحا خلال فترة الاحتلال الروماني وكذلك بعد سقوط دولة الموحدين حيث تنافست ثلاث دول لخلافتها. الحقيقة الخامسة أن الاستعمار الغربي الروماني/الرومي في القديم والإسباني في العصر الحديث والفرنسي في التاريخ المعاصر كان له دور مدمّر أعاق في بعض الفترات التاريخية مواصلة الأدوار الرائدة التي قام بها أسلافنا. وبالتالي فإنه لا يعود عدم توحّد المنطقة أو بعث خصوصية لها إلى عدم الوعي بالخصوصية الأمازيغية وإلباس ذلك للغزو الخارجي. ما يجب تسجيله كذلك أن لقاء العنصر الأمازيغي بالعنصر العربي عبر الإسلام شكّل نقلة حضارية كبرى في مسيرة بلاد المغرب حفّزت أبناء هذه البلاد على إقامة ممالك ما تزال آثارها باقية. كما كان التقاء العنصر الأمازيغي بالعنصر الكنعاني منذ الألف الأولى قبل بداية التقويم الميلادي والذي نتج عنه الحضارة البونيقية عاملا أساسيا في التقاء هذه المنطقة مع بدايات فجر التاريخ. لقد كانت الجزائر وعموم بلاد المغرب ملتقى للحضارات ولم تكن مجرد أرض للغزوات الخارجية كما أشاع الفرنسيون ذلك من أجل تثبيت احتلالهم للجزائر بتقديم أنفسهم كمنقذين لأبناء المنطقة مما وصفوه ب"الغزو العربي". لقد ارتبط مصير هذه المنطقة بالشرق عبر التاريخ للتصدي لهمجية الغرب وعدوانه الدائم منذ العهد الروماني. إن لغة وحضارة قدماء بلاد المغرب تشكل في عمقها امتدادا للحضارات التي سادت الشرق القديم ولذلك سعت فرنسا طيلة وجودها لفصل المنطقة عن امتدادها الطبيعي بالمشرق وربطها بالغرب. وللأسف بعد رحيل فرنسا جاء من يطبق أفكارها حيث أن هناك من يركز على تجسيد فصل الجزائر عن المشرق بدعوى جزأرة محتوى التعليم تحت ستار إصلاحه. إن الاستغلال السياسي للمسألة البربرية هو الذي جعل منها قضية ظهرت بذورها في منتصف عقد الأربعينات خلال القرن الماضي وظلت منذ تلك الفترة مطروحة. إن الأزمة البربرية التي عرفها حزب الشعب الجزائري سنة 1949 تعود في جوهرها إلى الصراع الأيديولوجي الذي برز في تلك السنة حول المرجعية الفكرية للحزب وبالتالي لهوية الجزائر بسبب اندساس عناصر تتبنى الأطروحات الشيوعية واللائكية في قيادة اتحادية الحزب بفرنسا والجهر بتلك الأطروحات المعادية لمكون أساسي في الهوية الجزائرية وهو المكون العربي/الإسلامي. لقد كان للسياسة الاستعمارية الفرنسية دور رئيسي في بذر روح الشقاق والفتنة بين مناضلي حزب الشعب الذي كان رائدا للحركة الوطنية الاستقلالية بعد أن أثبت الشعب الجزائري خلال أحداث 8 مايو 1945 أنه شعب واحد وموحد قادر على صناعة المعجزات في حال توحّده وراء قيادة واعية تسعى لنيل استقلال الجزائر. ويذكر الدكتور محمد العربي الزبيري أن مناضلين من منطقة القبائل التي تأثرت بتلك الأزمة أمثال كريم بلقاسم وبلقاسم راجف هم الذين تصدّوا للأزمة وعالجوها بحيث لم تؤثر على انطلاقة الثورة وتحرير الجزائر. قبل أن نختم حديثنا عن المكون الأمازيغي، ينبغي التذكير بالجهد التاريخي الذي قام به العرب في الحفاظ على الشخصية الأمازيغية، فلفظ مازيغ ظهر لأول مرة كما ننطقه اليوم في مُصنّفات المؤرخين العرب على يد أحد أبرز مؤرخي القرن العاشر وهو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي في حديثه عن نسب البربر ضمن كتابه "جمهرة أنساب العرب"، وهو ما أخذ به المؤرخ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي في موسوعته التاريخية الضخمة التي سماها "كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، حيث قال في المجلد السادس ما نصه: "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان وأن اسم أبيهم مازيغ". وأنا أكتفي بهذا ولا أعتدّ بما كتبه الفرنسيون حول أصل التسمية لأن ما كتبوه جاء لاحقا لما كتبه ابن حزم وابن خلدون وغيرهم من مؤرخي العرب. كما كان الفرنسيون بعسكريّيهم ومثقفّيهم خصما للشعب الجزائري والخصم لم يكنْ ولن يكون نزيها في أحكامه. فقد ركزوا على "الدراسات البربرية" وحاولوا بشتى الأساليب إثبات أن الأمازيغ تعود أصولهم إلى أوروبا وذلك بهدف دمجهم في المحيط الأوروبي ونزع أي مقاومة لديهم للوجود الفرنسي وفصلهم عن المحيط الطبيعي العربي الاسلامي حسبما نص عليه بيان الأةل من نوفمبر 1954. ومن هنا يأتي الرأي القائل بأن المسألة البربرية تعتبر تركة فرنسية، إذ لم تكن المسألة معروفة قبل الوجود الاستعماري الفرنسي. ولعل أبرز دليل على التأثير الذي مارسه الفرنسيون ساسة وعسكريين ورجال دين يتلخص في نشاط حركة الآباء البيض التي ركزت كل جهودها على منطقة قبائل زواوة لتحويل أبنائها إلى النصرانية. يقول الباحث محند أرزقي فراد في مقال له بصحيفة الشروق إن المغني معطوب يذكر في في مذكراته "المتمرد لوناس معطوب"أن الآباء البيض قد أدوا دورا حاسما في إيقاظ وعْيه الهُويّاتي، وفي إدراكه لجذوره القبائلية العميقة. وتحدث عن دورهم في نشر المطبوعات باللهجة القبائلية. لقد شكلت تلك الجهود بداية تدوين تلك اللهجة بالحرف اللاتيني وإعطائها طابع اللغة التي طالب الناطقون بها بترسيمها دستوريا وتعميم تدريسها.