صدر كتاب قيم للأستاذ بوزياني الدراجي بعنوان "القبائل الأمازيغية أدوارها - مواطنها-أعيانها" في جزئين نشره "دار الكتاب العربي" سنة 2003م، ويعد في نظري أهم ما نشر في موضوع الحقبة الأمازيغية منذ الثلاثينيات من القرن الماضي الذي عرف ظهور كتابين تاريخيين هامين تحدثا بشيء من الإسهاب عن تاريخ أجدادنا الأمازيغ هما: كتاب " تاريخ الجزائر في القديم والحديث" للأستاذ المصلح مبارك بن محمد الميلي، و"كتاب الجزائر" للأستاذ المؤرخ أحمد توفيق المدني. وقد رحب بهما الإمام عبد الحميد ابن باديس أيما ترحيب لأنهما أحييا ماضي الجزائر العريق ولكونهما حجة تاريخية تشد من أزر الحركة الإصلاحية والحركة الوطنية السياسية من أجل مقارعة الاستعمار الجاثم على الوطن المجروح. ويندرج هذا الكتاب ضمن الأعمال العلمية المتميزة بموضوعية الكتابة ونزاهة التحليل ونبل الأهداف التي لا يمكن أن تحيد عن خدمة العلم والوطن. وهكذا فإن سمو هذا الكتاب إلى الأعمال الفكرية الكبرى يجعلني لا أتردد في دعوة مسؤولي وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والمحافظة السامية للأمازيغية إلى احتضانه بإدراجه ضمن البرامج التعليمية بمدارسنا كمصدر من مصادر التربية الوطنية - التي برز موضوعها هذه الأيام في أجندة وزارة التربية- ، كما أنه يستحق مكانة مرموقة في نشاط سنة الثقافة العربية بالجزائر. وبقدر ما أعتبره لبنة أولى في صرح المصالحة مع الكتابة التاريخية الخاصة "بالحقبة الأمازيغية" لما تميز به من مقاربة وطنية تجعله يتكامل مع البعد العربي الإسلامي في تاريخنا، فإنني أعتبره أيضا بمثابة مسمار في نعش الكتابة التاريخية الكولونيالية التي طالما عبثت بتاريخنا العريق لخدمة المشروع الإستعماري، لذلك فهو يشكل في نظري بداية نهاية لاحتكار المدرسة الفرنسية لجزء هام من ذاكرتنا التاريخية التي زادها عزوفنا نحن المعربين عن دراستها تفاقما، حيث عاثت فيها الأقلام الكولونيالية مسخا وتشويها. هذا وقد تألم المؤرخ الأستاذ بوزياني الدراجي كثيرا من سياسية التعتيم المفروضة قبل اليوم لسنوات عديدة على الحقبة الأمازيغية من تاريخنا، كما تألم من تداعيات إسقاط الرؤى الإيديولوجية لدى الكثير من الكتاب أثناء تعرضهم لها ، الأمر الذي أدى إلى التعامل مع التاريخ بالذاتية والإنتقائية وفق ايديولوجية كل طرف. ولعل أخطر ما نجم عن تفريغ الشحنة السياسية على تاريخنا هو التنكر لجزء هام لماضينا أدى إلى زرع الأحقاد والضغائن بين أبناء الوطن. ولاشك أن هذه الرؤية الثاقبة ناجمة عن كون المؤلف مثقفا يعي أهمية التاريخ في استقرار أوضاع الأمة وتوازن المجتمع، ونستشف ذلك القلق - الذي صار كابوسا على وعيه- من مقدمة الكتاب التي جاء فيها قوله (ويعتبر موضوع القبائل الأمازيغية من المتطلبات الملحة والهامة، التي كان من الواجب العمل على معالجته في وقت سابق، غير أن ذلك لم يتحقق لأسباب عديدة نتركها للمهتمين بها). ومهما يكن من أمر فإن الأستاذ المؤلف لم يدخر أي جهد لنفض غبار التنكر عن "القبائل الأمازيغية" ومواطنها وأعيانها وأدوارها السياسية والعسكرية والثقافية، وبالنظر إلى أهمية الموضوع وتشعب محاوره فقد استلزم مراجعة ومطالعة جل المصادر والمراجع التاريخية المختلفة من يونانية ورومانية وعربية وفرنسية، فضلا عن دراسة آثار الإنسان باعتبارها مصادر مادية مكملة للمصادر الكتابية. هذا وقد لاحظ المؤلف أن المصادر اليونانية والرومانية قد ميزتها الضحالة لكون المؤرخين كتبوا وهم بعيدون عن مسرح الأحداث، أما المصادر الفرنسية فرغم وفرة مادتها التاريخية فقد كتبت بمسحة سياسية إستعمارية كانت تصب في خدمة مشروع فرنسة المجتمع الجزائري ومن أهم مؤلفيها: أ.ف. غوتيي / ليفي بروفنسال / أندري باصي / روني باصي / شارل أندري جوليان / جورج مارسي وغيرهم. أما المصادر العربية فهي مفيدة في العموم وإن كانت تفتقر إلى المنهجية العلمية التي تعتمد على غربلة الأخبار بمعيار العقل مثلما فعل عبد الرحمان بن خلدون في كتابه المشهور (العبر)، ولعل أهم هذه المصادر التي اعتمد عليها المؤلف نذكر كتب:" جمهرة أنساب العرب لإبن حزم الأندلسي، والبيان المغرب لإبن عذاري، و"عنوان الدراية" لأبي العباس أحمد الغبريني، و"بغية الرواد" ليحي بن خلدون، و"تحفة النظار" للرحالة بن بطوطة، و"روض القرطاس" لإبن أبي زرع، وكتاب "الصلة" لإبن بشكوال"، وكتاب "أعز ما يطلب" لإبن تومرت، وكتاب "المقتبس" لإبن حيان، وغيرها من المؤلفات. ومما يبرز كفاءة الكاتب العلمية التي جعلت قلمه هادئا، أنه يستعرض مختلف الآراء التي قيلت في الحدث التاريخي دون أن يتحيز لقول أو يقصى قولا آخر، وتجلى لنا ذلك في استعماله لعبارات ( إن صحت هذه الرؤية / ربما / وثمة من يرى / ويبدو / قال بعضهم / لو أن الدارسين اختاروا الموضوعية). واضعا جميع الآراء على محك النقد، وعند إبداء رأيه الخاص فإنه يكون مدعوما بما يراه حجة علمية تجعل القارئ يحترمه ويطمئن إلى ما يكتبه، بغض النظر عن التوافق أو الإختلاف مع ما يقدمه من آراء. وهكذا فعندما تعرض بالذكر لتسمية الأمازيغ ذكر التسميات المختلفة من "لوبي" المشاعة عند اليونان و"إفري" المعروفة عند الفينيقيين، و"بربر" المستعملة عند الرومان، وذكر المؤلف إحتمال إشتقاق هذه التسمية الأخيرة من الكلمة اليونانية VARVAROS التي تعني الرطانة واللغط، وقد أطلقها اليونان على الرومان الذين أطلقوها بدورهم على الشعوب الخارجة عن حضارتهم في أسيا الغربية (الصغرى) وشمال افريقيا. أما كلمة "الأمازيغ" فيرى أنها قديمة لكن العرب الفاتحين فضلوا إستعمال كلمة "البربر" عند قدومهم إلى شمال إفريقيا لرواجها منذ عهد الاحتلال الروماني. ثم إستعرض الكاتب الروايات المختلفة حول نسب الأمازيغ التي تنسبهم إلى اليمن والشام، ذاكرا رواية أصل "بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار"، ورواية انحدارهم عن أبناء الملك "النعمان بن حمير بن سبأ"، ورواية انتسابهم إلى ملك التبابعة المسمى " إفريقش بن قيس بن صيفي" الذي سميت إفريقيا باسمه، كما ذكر رواية أخرى تنسبهم إلى ملك اليمن " أبرهة ذي المنار" وأخرى تنسبهم إلى "يقشان بن إبراهيم الخليل"، وأخرى لا تستبعد تفرهم عن الغساسنة أو أنهم من لخم وجذام. هذا وقد رفض المؤلف هذه الروايات لسببين هامين على الأقل: غياب الدليل العلمي، وتعارضها مع المنطق، مدعما رأيه بموقف ابن خلدون الذي فند جميع هذه الروايات معتبرا إياها "قولا ساقطا" و "أحاديث خرافة"، وأيد رأي ابن حزم في قوله" ولا كان لحمير طريق إلى بلاد البربر، إلا في تكذيب مؤرخي اليمن". هذا ولم يهمل المؤلف ما تميز به موقف ابن خلدون من خلط وتناقض قائلا (ومن علامات تناقض بن خلدون وبلبلته أنه من جهة يجزم بانتساب البربر إلى كنعان بن حام وإلى العمالقة، ومن جهة أخرى يصرح في موضع آخر بإنكاره لهذا الطرح). وفي الأخير أبدى المؤلف رأيه في أصل الأمازيغ، ولئن أقر قدوم هجرات بشرية مشرقية، فقد رجح عراقة وقدم الإنسان في شمال إفريقيا التي أكدتها الدراسات الآثرية ( إنسان الأطلس الذي عاش فيها منذ 400 ألف سنة) ليخلص إلى القول الفصل – في رأيه – (أن سكان البلاد المغربية مشكلون من مزيج بشري تكون عبر قرون عديدة، ومن سلالات مختلفة وأجناس متباينة، انتقل أسلافهم إلى هذه الديار ضمن موجات بشرية عديدة) أما عن اللغة الأمازيغية فقد ذكر الكاتب أنها كتبت بحروف "تيفيناغ" منذ القديم، وعد َّها من أقدم اللغات المكتوبة في إفريقيا إلى جنب "الكتابة المروية الإيثيوبية مشيرا أن المثقفين المغاربة خاصة في عهد الاحتلال الروماني كانوا يكتبون باللغة اللاتينية (يوبا الثاني / أبوليوس / القديس أجوستين) هذا وقد أسهب المؤلف في الحديث عن القبائل الأمازيغية بفرعيها الكبيرين البرانس (صنهاجة / كتامة / أوربة / أزداجة / عجيسة / مصمودة / هسكورة وغيرها) والبتر (ضريسة / لواتة / نفوسة / أداسة / زواوة / زناتة / رواغة / مكناسة وغيرها) كما تحدث عن أعيانها وأعلامها الذين خدموا الحضارة العربية الإسلامية بسواعدهم وأقلامهم وألسنتهم. وإذا كان المقام لا يتسع لذكرهم فلا مناص من ذكر عينات عنهم وفي مقدمتهم الشاعر الأندلسي ابن خفاجة الهواري (من القرن الثاني عشر الميلادي) وهو من فحول الشعراء، وقد وصف الكاتب "ابن خاقان" في كتابه "قلائد العقيان" شعره قائلا (فجاء نظامه أرق من النسيم العليل، وآنق من الروض البليل) أما الكاتب "ابن بسام الشنتيريني" فقد وصفه في كتابه "الذخيرة" بقوله (من شعره ما يبطل السحر ويعطل الزهر). أما الأديب الرحالة الشاعر عبد الله الحجازي الصنهاجي (المتوفى سنة 1126م ) فقد لقب بحافظ الأندلس وبجاحظ الأندلس، وأشهر مؤلفاته "المغرب في حلى المغرب " وهو مستوحى من كتاب كبير بعنوان "المسهب في فضائل المغرب". أما في النحو فقد برز عبد الله بن أجروم الفاسي الصنهاجي (المتوفى سنة 1323 م) وأشهر أعماله "مقدمة الأجرومية" في النحو، ومن النساء الأمازيغيات الشهيرات في حقل العلوم الدينية "عائشة بنت علي الصنهاجية التي أدركتها المنية بمصر سنة 1328م. أما قيروان فقد أنجبت من ملك ناصية الفقه المالكي (ابو عبد الله النفزي القيرواني المتوفى سنة 996 م) وبلغ من الدرجة العلمية السامقة ما جعل أهل زمانه يلقبونه "بقطب المذهب" و "مالك الأصغر". وبالنظر إلى ضخامة واتساع الموضوع المعالج وعمق أغواره، فإنه من الطبيعي أن يتخلل هذا المجهود الفردي الجبار بعض النقائص في الشكل والمضمون يتوجب على المؤلف تداركها في الطبعات المقبلة ، غير أن ذلك لا ينقص من قيمة هذا الكتاب الذي يستحق التفاتة المثقفين ومن يهمهم أمر تاريخنا العريق الذي أنجب من الأعلام التاريخية والفكرية والأدبية والسياسية ما رصع ماضينا " باللآليء المشعشعة" التي لا يقل بريقها عما أنتجه إخواننا في المشرق العربي، لكن هؤلاء الإخوان دأبوا - مع الأسف – على استصغار "جلائل أعمال المغاربة " ولعمري هو الأمر الذي جعل المثقف ابن حزم الأندلسي يعبر عن ألمه وحسرته من وطأة ظلم" ( ذوي القربى ) بطريقة فنية راقية ترفعت عن أسلوب التجريح حين قال: أنا الشمس في جو العلوم منيرة *** ولكن عيبي أن مطلعي الغرب. ومهما يكن من أمر فإن الأستاذ بوزياني الدراجي قد نفض الغبار عن جهود الأمازيغ في إثراء الحضارة الإسلامية أسوة بإخواننا في المشرق. وإذا كان لكل مؤلف كتاب يرفع ذكره في سجل الخلود ويصنع له عمر ثان لا يفنى، فإن كتاب "القبائل الأمازيغية" – في نظري – مرشح لهذه المهمة الحضارية.