ما حدث في تونس الأسبوع الماضي، أسقط في يدي المتابعين لحركية التغيرات السياسية، فطبيعة »الثورة« كونها شعبية وسلمية، وسرعة وصولها لغايتها، وربما الأهم من كل ذلك خصوصية المكان والزمان، إذ لم يكن في الحسبان أن ينطلق القمقم من تونس، ذلك البلد التي ظل يقدم كنموذج للاستقرار الاجتماعي، ويباهي بإعلان مؤشرات ايجابية لنموه الاقتصادي.. كل ذلك جعل أعناق المتابعين، تتطلع لسماع صوت يستطيع فك شفرة ما حدث، وبالأحرى سماع تحليل منطقي »يجمرك« ما حدث في خانة الطرح المعهود، كاليد الخارجية ووضع ثورة الشارع تحت قناع محرك لإحدى القوى الدولية أو الإقليمية، فالنظام التونسي الذي صفح نفسه بمنظومة كاملة من وسائل القمع، ورصد واستباق كل ما يشتم منه رائحة المعارضة، كل ذلك مع قالب حديدي تصهر فيه الأفكار والقناعات، حيث لا مجال للحياد والتردد، بل المطلوب دائما هو تقديم طقوس الولاء والخضوع.. ثم إنَّ الفرد التونسي، كما يصفه أحد الشباب التونسيين، ظل ينظر إليه ».. في الأواسط العربية والدولية، كونّه فردا رصينا وهادئا، فهو ميّالٌ بطبعه للتنظير والتأمل العقلي، دون الإنجاز والتطبيق وذلك بحثا عن السلامة، فالتفاوض والحديث هو سقف نضاله وعطاءه، مهما علت مطالبه، فالمقاومة مستبعدة منه ابتداءً و خاتمة، فلسانه أقوى من ساعده، وتأمله غالب على عمله«.. هذا الانطباع جاء بطبيعة الحال، نتاج تراكم تاريخي وثقافي طويل، إذ أن تونس كانت باستمرار معبرا للتقلبات السياسية، والصراعات، دون أن تستقر تلك الصراعات على أرضها طويلا، إذ سرعان ما تنتقل مشرقا أو مغربا، في حركة مد وجزر، كما حدث في زمن الفتح الإسلامي.. ومساء الخميس الماضي أطل علينا، عبر شاشة الجزيرة، الأستاذ محمد حسنين هيكل، والرجل بما اكتسبه من خبرة، سواء بحكم علاقاته المتميزة أو المواقع التي شغلها أو بحكم سنه، فهو من الشهود القلائل على تاريخ المنطقة، ابتداء من الثلث الأول من القرن العشرين، ويطل على الأحداث من موقع يؤهله بأن يتابع تفاصيل لا تتاح إلا لمثله، ولكل هذه الاعتبارات فحديث هيكل حول »ثورة« تونس له قيمة خاصة.. وكأنَّ الأستاذ هيكل أدرك هذه الحاجة لدى متتبعيه، فبادر بالحديث عما وقع، لكن الرجل الذي اعتدنا فيه قوة الحضور، والأخذ بيد من يستمع إليه كأنه يقرر حقائق ثابتة، بدا يطرح تساؤلات حائرة، ويتخلص من مسؤولية ثقيلة في القطع بسيناريو لما حدث، وكان العنوان الكبير لحديثه »ما المسؤول عنها بأعلم من السائل«، وجاء حديثه فضفاضا، يردد ذات التساؤلات عن »سرعة ما حدث« وعن انهيار النظام »الحديدي« الذي أمده الأمريكان بكل وسائل الحماية الحديثة، سعيا منهم في التأسيس لعهد ما بعد الثورة الإيرانية، وأنَّ الشارع الثائر هو من جيل »الفايس بوك والتويتر« وهو كلام عام يتردد في الصحافة السيارة.. ربما جديد هيكل هو ملاحظته أنَّ الثورة الإيرانية هي آخر ثورات القرن العشرين، وهي ليست صدفة تاريخية إن كان في التاريخ صدف، وإنما يقول هيكل، بترتيب من الدول الكبرى في الغرب، وهي تسعى لتحقيق هدفين: الأول فرض السلام في الشرق الأوسط، والهدف الثاني منع قيام ثورات جديدة، وإن لم تستطع تلك الدول فرض مسار السلام بشكل نهائي، فإنها مهدت لتحقيق الهدف الثاني، بدعم أنظمة في المنطقة العربية تحول دون قيام ثورات، وكلام هيكل هذا ربما يبرر التغاضي عن قيام »الجملوكيات« العربية.. بعد هذه المقدمات العامة، انتقل هيكل للحديث عن مسار الرجل الذي حكم تونس بعد بورقيبة، فنرى من خلال حديثه أن بن علي رجل أمن بامتياز، لكنه قليل الخبرة بالسياسة، وأن الأقدار ساقته ليرث تركة »الرجل المريض« أو بحسب تعبير زوجة بورقيبة وسيلة بن عمار »الرجل الخرف«.. لكن هيكل لم يستطع طيلة الخمسين دقيقة من وقت البرنامج، أن يتجاوز هذا العرض العام حول طبيعة »الزلزال التونسي«، والرجل لا يلام في ذلك فهو نفسه يعمل في تحليله بأدوات قديمة، ويحمل ذاكرة لا تسعفه في تفكيك مشهد لا عهد للمنطقة به، ذاكرة صاغتها التحولات الفوقية من انقلابات وصراعات، لا يتجاوز دور الشعوب فيها دور »المفعول به«، أما هذا المشهد الجديد فالشعب »فاعل« ولا يرضى حتى »بنائب الفاعل«.. وفي مساء الخميس نفسه، وليت بصري نحو القناة الفرنسية الثانية، وهي تبث برنامج »لكم الحُكم«، وكانت الحلقة مخصصة للحديث عن تونس، وعنوانها »تونس: أي مستقبل ينتظرها؟ وما دور فرنسا فيه«، ودعت للحديث في الموضوع ضيوف متميزين، منهم الوزير الأول الأسبق »دومنيك دوفلبان«، وكان قد حمل حقيبة الدبلوماسية الفرنسية، ومعه استضاف البرنامج وزير الخارجية الأسبق »هبير فادرين«، لكن النقاش هنا أيضا، لم يتجاوز رصد السطح الظاهر، وهي تحاليل دون المعتاد من حديث مسؤولين على هذا المستوى.. فجاء البرنامج بكم هائل من التساؤلات والافتراضات، منها الحديث عن خطر الإسلاميين؟ يقول أحدهم، لكن الانتفاضة لم تنطلق من المساجد؟ يردف آخر، الفرنسيون يجب أن يستثمروا اقتصاديا في تونس للحيلولة دون استثمار الإسلاميين للساحة؟ ويجب مرافقة الحكومة التونسية بما اسماه »فدرين« الهندسة الديمقراطية Engineering de la démocratie، ويعقب »دوفلبان« بعدم الاكتفاء بالتواصل مع سكان الساحل و الشمال، لأن الانتفاضة جاءت من المناطق الداخلية المحرومة.. تساؤلات وتنظير بالجملة، وفرضيات لواقع جديد غير متوقع في تونس تحديدا، ذلك أن شعوب العالم العربي، ما بعد الاستعمار، ظلَّ ينظر إليها على أنها أقل من الاستجابة لدواعي التغيير السلمي، والتطلع للديمقراطية، والحق في المشاركة في بناء أوطانها، وهو حق لا يكتسب إلا عبر »حق« اختيار من يمثلها في مختلف مسؤوليات الشأن العام.. ما حدث في تونس أخلط أوراق من اعتادوا هذه النظرة »الدونية« للشعوب العربية، نظرة الكتل من البشر تساق كريشة في مهب التاريخ الحديث، بأمر واقع، وأفراد حالهم في مجتمعاتهم يشبه فحوى تلك النكتة التي غدت مثلا في تونس »الله يَنصر مَن صَّبحْ«.. ذلك أنه يروى أن انقلابات البايات تعددت في تونس، فمسي الناس على باي ويصبحون على آخر، وهي تشبه قصة الثلاث رؤساء في 24 ساعة من بن علي إلى المبزع مؤخرا مع الفارق، فكان التونسي يلقى الآخر صباحا فيسأله عن الحاكم؟ وخوفا من القمع من إبداء الرأي في السابق أو اللاحق، كان كل فرد يتخلص من الإجابة بهذه الصيغة المبهمة »الله يَنصر مَن صَّبحْ«.. لكن »ثورة الياسمين« بطريقتها السلمية الحضارية، أو»ثورة الصبَّار« في تصميمها على تحقيق مطالبها الديمقراطية، ذاع أريجها دون أن تغفل شوكها، وأسقطت هذا الصورة النمطية الخانعة، وعقدت من مهمة الذين يستدعون أدواتهم وذاكرتهم القديمة في فهم..