ما الذي سيحدث في تونس بعد رحيل زين العابدين بن علي؟ يصعب الإجابة عن هذا السؤال قبل الإجابة عن سؤال آخر: ما الذي حدث في تونس؟ لم يتردد الكثير من المعارضين التونسيين، وعدد من الملاحظين وبخاصة العرب، في الجواب عن هذا السؤال الأخير: إنها الثورة· ثورة افتكت هذه التسمية من النهاية التي انتهت إليها، ألا وهي طرد الديكتاتور وزوجته خارج التراب التونسي· الثورة كلمة ساحرة مشحونة بمعاني النبل والشجاعة، وتعني، في أكثر ما تعنيه، الوسيلة التي يلجأ إليها الشعب للتحرر من الظلم والتعسف· ومن الطبيعي جدا أن يختار الشارع التونسي هذه الصفة لحركته الاحتجاجية: أولم يتصد فيها الشارع، عاري الصدر، لسلاح البوليس؟ أو لم يقدم العشرات أرواحهم فداء للثورة· وأخيرا ألم ينتصر الشعب على الطاغية؟ والثورة لا تقسم إلا بالنجاح، النجاح وحده هو الذي يكسبها شرعيتها، ويجب أن نلاحظ أخيرا أن الثورة تصنع هيكلها العام وفق تطور الأحداث: تبدأ من لا شيء ثم تتحول إلى انتفاضة، ثم يكبر الاحتجاج، كما تكبر كرة الثلج، ويغذي الغضب نفسه بنفسه إلى أن يصل إلى درجة الذروة· ودرجة الذروة هي النتيجة التي تصل إليها كل الثورات: انهيار النظام القائم· وكما في كل الثورات تمر البلاد بفترة من الهلع والخوف بل وحتى الفوضى· ومن أهم ميزات الثورة أن يتردد شعار معروف هو: الحكم للشعب والشعب هو السيد، والشعب هو من سيحاكم الفاسدين· وقد شاهدتنا، عبر الصور التي نقلتها تلفزيونات العالم، متظاهرين تونسيين يرفعون بالضبط هذه الشعارات: الحكم للشعب، والشعب سيحاكم بن علي وعائلته وزوجته وعائلتها والمقربين منهما وكل الذين كانت لهم يد في النظام· وفي مثل هذه الحالات لا ينتظر الشعب من يؤطره من أحزاب وجمعيات ليبدأ المحاسبة· والذي حدث لمساكن عائلة طرابلسي، في ''فامرت'' بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة، من نهب وتخريب، هو من قبيل هذه المحاكمات الشعبية· وتنقل العديد من وسائل الإعلام أخبارا مفزعة عن عمليات من هذا القبيل· وعندما تصل الثورة إلى هذا الحد يختلط الحابل بالنابل: يباح كل شيء من ممتلكات عمومية وخاصة ومن أعراض باسم الثورة والمحاكمات الشعبية· ومن الأخبار التي وصلتنا أن عناصر مجهولة الهوية، مسلحة، تجوب الشوارع وتعمل فيها حرقا ونهبا وتخريبا· ومن المصادر ما أشار إلى عناصر من الأمن تحولت إلى جمع الغنائم بعد كانت مكلفة بحماية الممتلكات· ويذكرنا هذا بما نقل عن مجموعات من عناصر البوليس السري (السيكيريتاد الروماني)، يوم سقوط تشاوشسكو، أو الموساد الإيراني يوم سقوط الشاه· الذي يحدث أن تستيقظ قوى نائمة غير معروفة هوياتها ولا وظائفها في النظام السابق وكثيرا ما يكون دورها مدمرا· ومن علامات الفوضى ما علمناه من اقتحام لبعض السجون وإطلاق سراح نزلائها· ومع كل ذلك فإن ما حدث في تونس يختلف عما حدث في إيران مثلا· في ''إيران الثورة'' انهار كل شيء يرمز إلى النظام القديم، وعلى عكس تونس، كانت الثورة الإسلامية في إيران قد هيأت لها زعيما يأمر فيطاع ساعة هروب الشاه وتفسخ أجهزته الأمنية ومخابراته· ومع ذلك مرت الثورة الإيرانية بفترة من الفوضى تولى النظام الجديد نفسه تغذيتها وتنظيمها· فقد كانت المحاكمات الشعبية، مثلا، تدار باسم النظام الجديد، وكانت كل التصفيات والمظالم تقع باسم آية الله الخميني· وأكثر من ذلك فإن الخميني استخدم أجهزة القمع القديمة، وعلى رأسها السافاك، في محاكماته الشعبية-الثورية· وعلى العكس من ذلك لا نكاد إلى اليوم نميز شخصية معارضة واحدة تتمتع بقدر كاف من الكارزماتية، يمكن تقديمها لزعامة هذه الانتفاضة الشعبية في تونس، ومن شأنها أن تستلم الحكم مباشرة في قصر قرطاج· فهل تكون الثورة قد انتهت بمجرد رحيل الرئيس؟ هذا ما سيجيب عنه الشارع في الأيام القادمة أو ربما في الساعات القادمة· يبقى أن هناك معطيات أخرى تقترح تنوعا في القراءات· الأخبار القادمة من تونس، تؤكد أن الجيش انتشر بقوة في شوارع العاصمة، تطبيقا لحالة الطوارئ التي قررها الرئيس الفار، وأنه يواصل انتشاره في كبريات المدن· ويعني هذا شيئين: الأول حرص الجيش على حفظ الأمن والعمل على استتبابه· والثاني أن الجيش نصب نفسه حكما بين الشارع وبين النظام· وفي هذا السياق تفهم تصريحات بعض المعارضين، ومنهم منصف المرزوقي وهو يتحدث عن انقلاب عسكري ضد إرادة الشعب· وسرت كلمة انقلاب على شفاه كثير من المعارضين، في عدة قنوات تلفزيونية غربية وعربية، بعدما أعلن محمد الغنوشي أنه، ونظرا لغياب بن علي، رئيس الجمهورية بالنيابة وأنه سيدير شؤون البلاد لمدة ستة أشهر قبل تنظيم انتخابات تشريعية· ولم يخل خطاب الوزير الأول السابق من تلميحات، ولكنها بالغة الوضوح، بأن النظام لم ينته، وأنه يتأسف على ما وقع، وأنه سينفذ ما وعد به الرئيس··إلخ والحقيقة أن موقع الغنوشي تغير عدة مرات، بين عشية يوم الجمعة وصباح السبت، من رئيس حكومة مخلوع بأمر من بن علي، إلى مكلف بتشكيل حكومة جديدة، إلى رئيس جمهورية بالنيابة، ثم أخيرا إلى التنحي لصالح رئيس مجلس النواب، فؤاد لمبزع· الواضح أنه حصل تردد في أية مادة من مواد الدستور يصلح التحجج بها والحالة هذه: هل المادة التي تفيد غيابا مؤقتا للرئيس، أم تلك المتعلقة بشغور منصبه· ويبدو أن استعمال هذه أو تلك لا علاقة له بوضعية بن علي، وإنما لنوع من النزاع والجدل بين من تبقى من أصحاب القرار في تونس: هل هو الجيش أم المخابرات البوليسية· والذي يبدو لنا بوضوح أن أصحاب القرار هؤلاء قرأوا الدستور ثم أعادوا قراءته وفق تقييمهم لحركة الشارع· وتفيد قراءاتهم هذه وترددهم أن الأمر يتعلق بمحاولات يائسة للإبقاء على النظام، محاولات تتلاشى شيئا فشيئا مع استنفاذ الورقات الواحدة تلو الأخرى· وكانت المحاولات الأولى على يد بن علي نفسه وكانت التضحية به ورقة من الورقات، وجاءت ورقة تقديم الغنوشي، ثم أخيرا التضحية به لصالح المبزع· كان بن علي قد طلب ثلاث سنوات، لتتقلص المدة، على يد الغنوشي، إلى ستة أشهر، ثم إلى ستين يوما على يد المبزع· صحيح أن تعيين المبزع جاء وفقا للدستور، ولكن يجب أن نذكر أن من معاني الثورة أن يلغى العمل بالدستور بصفة تلقائية· ومواصلة اعتماده في الإصلاح والتغيير معناه إعطاء النظام فرصة من ذهب لاستمراريته، وبخاصة إذا تولى الأمر من تبقى من أجهزة النظام القديم· ووصول الأمور إلى هذا الحد، دفع بالملاحظين إلى التساؤل: هل ستعرف تونس تحولا ديمقراطيا بطريقة سلمية هادئة؟ كما جاء في افتتاحية ''لوموند'' ليوم أمس· لا ندري· لا ندري، ذلك أن تعقيدات أخرى تلوح في الأفق· منها أن تونس بلد شديد الارتباط ببعض القوى الخارجية، ومنها فرنسا بالخصوص، ولا نعتقد أن الفرنسيين سيرفعون أيديهم عن التدخل في شؤونها· ومنها أننا لا نعرف مدى انسجام المعارضة في تونس واتفاقها على مخطط سياسي يؤسس لنظام جديد· ثم لا أحد يتوقع ردود أفعال عشرات الآلاف من المستفيدين من النظام السابق، ولا الكيفية التي سيتصرفون بها ولا الكيفية التي ستتصرف بها إزاءهم المعارضة، ولا العلاقة بين المعارضة ''الرسمية'' المسموح بها وبين المعارضة الحقيقية· ثم إننا نجهل تماما دور الجيش وموقفه، بل نجهل حتى وزنه الحقيقي في البناء السياسي التونسي· والأكيد أن صراعات مختلفة ستشهدها الساحة السياسية في تونس بين معارضي المنفى، بعضهم اتجاه بعض، وبينهم وبين معارضي الداخل· هذا دون أن نغفل الطموحات الشخصية: من سيكون وفي أي موقع سيكون، ومن سيهمش من، ومن سيتحالف مع من؟ ومن سيحتكم لمن؟ وكيف سيتصرف كل واحد وفق الوضعية التي سيكون عليها· ومن الأكيد أن فترة ستين يوما غير كافية لغربلة كل هذا السديم· ومن الصعب جدا أن يقع إجماع خلال هذا الزمن القصير·