عمي حسين، هكذا كنت أناديك، منذ ذلك اليوم البعيد، الذي تشرفت فيه بلقائك ومعرفتك عن قرب، أنت الذي كان اسمك وحده، يكفي للإعلان عن تاريخك وهويتك ومن تكون. أيجدي الرثاء بعد الرحيل، يا عمي حسين، وها أنت ذا قد غادرتنا بدون استئذان، فما عساني أكتب عنك، هل تسعفني الكلمات لكي أوفيك حقك من ذكر الفضائل والمآثر وجلائل الأعمال. عمي حسين، هكذا كنت أناديك دائما، حبا واحتراما وتقديرا، ولأني كنت أراك مني وأنا منك، ليس بحكم الانتماء الجهوي وإنما لارتباط فكري، كيف لا وأنت من أنت، جهادا ونضالا وإخلاصا لوطنك وصدقا في تعاطيك مع المواقف والأحداث والرجال. عمي حسين، هكذا خاطبتك أيام عيد الأضحى المبارك، جاءتني كلماتك كعادتها، صادقة وحارة، وكم كنت سعيدا وأنا أسمع صوتك مسكونا بتلك الإرادة التي قادت مسيرت. شعرت بالسعادة تغمر قلبك الطيب، أنت الذي كنت تعتبرني واحدا من أفراد عائلتك. عمي حسين، لقد شاء القدر أن يسكن الجسد وأن يأخذ الروح إلى مكان بعيد. وها أنا أناديك، كما لو أنك بيننا، ألست حيا في كل القلوب التي أحبتك بصدق، وأنت تعرف جيدا أن الحب يليق برجل نبيل مثلك. عشت حياتك كما اخترتها وكما أردتها، وفيا لمبادئك وقناعاتك، لا تساوم فيها ولا تهادن من يعاديها، مهما كانت التضحيات، وأعتقد جازما أن الزمن لو عاد إلى الوراء لاخترت الطريق نفسه. عمي حسين، أعرف أنك كنت حريصا على ألا تتحدث عن نفسك وأن محاولات عديدة جرت لإقناعك من أجل تسجيل شهادتك عن مسارك، وهو المميز بكل المقاييس، وعن رفيق دربك في الثورة الشهيد قائد الولاية السادسة التاريخية محمد شعباني، وعن رفيق المسيرة في النضال المرحوم الأستاذ عبد الحميد مهري، إلا أنك كنت تعتبر ما قمت به مسائل شخصية لا يصح التفاخر بها وأن ما ينبغي الحرص عليه هو القيم والمعاني والمبادئ التي قادت سلوك الرجال الكبار. هكذا كنت يا سي حسين، ترتفع فوق الذات وتحمل الوطن في القلب. أعرف جيدا رأيك في من يدبجون الخطب حول أشخاصكم، لكن أرجوك، وها أنا أستأذنك، في أن أتحدث عنك قليلا، أنت الذي كان مرورك بهذه الدنيا مرور الرجال، إذ أنفقت جهدك وزمانك واهتمامك فيما يخدم وطنك، ذلك ما كنت تقوم به، أيها الراحل العزيز، خلال مسيرة عمرك، كنت مجاهدا صلبا ومناضلا شهما، كنت يا سي حسين وطنيا حتى النخاع، وبهذه الشمائل التي حباك الله بها طوال حياتك، وهي التي صقلتها فيك مدرسة الوطنية، حزت محبة الناس ونلت ثقة إخوانك. هل تعرف يا سي حسين، بأن رحيلك قد أفجع كل محبيك، كل من عرفك وكل من شاءت الظروف أن التقى بك أو تقرب منك، كان مشيعوك إلى مثواك الأخير يتبادلون العزاء فيما بينهم، لأنهم يعتبرونك فقيدهم. نعم، من الصعب أن تجد جنازة، كل من شارك فيها، شارك بمحبة صادقة واحترام لقيمة كبرى، عاشت شامخة بحق وفي نكران ذات، يليق بنبلاء من هذا الطراز الرفيع. لم يكن ذلك كله كثيرا عليك، يا سي حسين، لقد انحدرت من أسرة كريمة في فلياش ببسكرة، فاعتصمت بالوطنية والجهاد في سبيل نصرة الحق والوطن، نشأت نشأة المحب للجزائر وتميزت كافة مراحل حياتك بمواقف مشهودة، قادك صدقك إلى حضن جبهة وجيش التحرير الوطني يافعا، فاستقيت من مبادئهما درسا ومثلا أعلى، فكان وفاؤك لوطنك وفاء المخلصين الأوفياء، لأن الوطن عندك يتجاوز مفهوم الراية الوطنية والأرض والحدود إلى ما هو أهم وأقدس. كنت يا سي حسين، مثالا في الالتزام بالمبادئ التي تؤمن بها، كنت ممتلئا بإرادة الرجال، هذا ما عهدناه فيك وهذا ما يشهده عليك كل الذين كنت معهم والذين كانوا معك. لقد كنت وطنيا، ديمقراطيا، تؤمن بأن الشعب الجزائري هو أجدر الشعوب بالحرية والديمقراطية والانتخابات الحرة، كان هذا هو موقفك الذي كنت تجاهر به، اقتناعا منك بأن الشعب الجزائري دفع مليونا ونصف مليون من الشهداء الأبرار من أجل الحرية والسيادة. لذلك كله، نبكيك يا سي حسين، ونذرف عبرات اللوعة والأسى حزنا وألما، نبكيك لأنك كنت مثالا في الوفاء لأمانة الشهداء وتقدير المسؤولية، ولأنك من الرجال الذين فرضوا التميز في كل مراحل حياتهم. يروي تاريخك بأنك أدركت وأنت شاب يافع، متسلحا بوعي سياسي ناضج، بأنه لا خلاص إلا بانتهاج الكفاح المسلح لاسترجاع الحرية المسلوبة والسيادة المفقودة. تركت مقاعد الدراسة بمعهد ابن باديس ولبيت نداء الجهاد، ناكبت أبطال ثورة التحرير، من أمثال محمد شعباني، وتحملت كما تحملوا، لكنك ظللت كما هم وكما كل مجاهد، قويا صلبا، منتظرا النصر المبين. نبكيك، يا سي حسين، لأنك كنت في كل مراحل حياتك مثالا في حب الوطن واعتناق قضاياه والإخلاص في الدفاع عنه وعدم الاهتمام بالمشاق، لأن الحياة بالنسبة لك موقف وقضية ورسالة، وإنك تدري والتاريخ يدري، كيف كان مصيرك الٌإقصاء والجحود والنكران. ويشهد التاريخ، يا سي حسين، بأنك استجبت لهاتف الوطن، بعد أن أتممت رسالة التحرير، فكنت عضوا في المجلس الوطني التأسيسي ونائبا بالمجلس الشعبي الوطني وعضوا بالأمانة الوطنية للمجاهدين وعضوا في المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، رفيقا للأستاذ المرحوم عبد الحميد مهري، في مرحلة صعبة من تاريخ الجزائر، فكنت داعية حوار ومصالحة وأحد المساهمين في صيانة الخط الوطني والحفاظ على المبادئ، التي تشكل جوهر جبهة التحرير الوطني ومن أساسات استقرار الأمة وحماية وحدتها. نبكيك، يا سي حسين، لأنك كنت شخصية تتسم بالرزانة والقوة التي صقلتها تجربتك الطويلة في مرحلة الثورة التحريرية وفي النضال السياسي، لقد كنت رجل حوار واستماع، لم يعرف عنك أنك تفردت برأي أو تعصبت لموقف، ماعدا في المبادئ التي لا تقبل التنازل. وهذا هو معدن الرجال، مهما كانت العواصف والأعاصير، لا يحولون ولا يتحولون، وهذا هو حالك، يا سي حسين، يا من كنت تمسك بالجمر، لأنك تأبى أن تفرط في قناعاتك. نبكيك، يا سي حسين، لأنك مناضل صلب، مارست السياسة بأسلوب مميز، قد تركن إلى الدعابة أحيانا للتعبير عن موقف أو لإشاعة جو يخفف من الضغوط، لكنك لم تكن ترضخ للابتزاز أو المساومة، عندما يتعلق الأمر بخطوط حمراء، تتصل بمقومات الهوية الوطنية وعناوين شخصية الشعب الجزائري وسيادته. عمي حسي، دعني أستعيد شريط الذكريات، إنه أمامي بتفاصيله، يوم عرفتك عن قرب، ورحلة الصداقة العامرة بالصدق، التي امتدت دون أن تنقطع. قبل أن ألتقيك، كانت صورتك باللباس العسكري تسكن ذاكرتي، هذا المجاهد الجميل بنظارته وقامته الطويلة، رفقة إخوانه من قادة الولاية السادسة، وقبل الصورة عرفتك من خلال قراءاتي لمسارك مجاهدا وسجينا في جزائر الاستقلال. من غيرك، يا سي حسين، يستحق أن يوارى جثمانه في مربع الشهداء، رفقة إخوانك، إنك لا تبحث عن شهرة ولا عن مجد، كان هذا إيمانك، ولذلك نودعك بحسرة وأسى، لأنك تركت أثرا طيبا في حياتنا، نستلهم من سيرتك عبق البذل والتجرد والإخلاص والصدق مع النفس. يبكيك، يا سي حسن، لأنك كنت مثلا في النضال الصادق، الوفاء للمبادئ، الوطنية الخالصة والكلمة الصادقة، وها أنا أستعيد معك كتاباتك الراقية، التي احتضنتها صحيفة » المجاهد الأسبوعي«، حيث كنت تكتب مقالك الرائع، بعنوان " بالعربي"، نافحت فيه عن قضايا الوطن والأمة. ليس ذلك بعزيز عليك، يا سي حسين، أنت المثقف وصاحب القلم الجميل. إذا كانت تلك بعض محطات مسيرتك، يا سي حسين، وبعض قرائن مشرفة من فضائلك ونضالك، فلك عليّ دين الأخ على أخيه والصديق والمعين، ولا أجد مجالا في هذا المقام لكي أجزي لك آيات الشكر والعرفان وأرجو صادقا أن تكون الرسالة قد وصلتك. أيها الفقيد الغالي، لئن كان الموت قضاء وقدرا لا رد لهما، فإن سخاء تضحيتك وحرصك على خدمة وطنك سيبقى نبراسا ومبعث فخر واعتزاز. لقد رحلت، يا سي حسين، إلى دار الحق، وعزاؤنا فيك أنك تركت وراءك من يذكرونك بكل الحب والمودة والاعتزاز، من عائلتك الصغيرة، زوجتك المحترمة، المجاهدة والمناضلة الحاجة صليحة وأبنائك الأعزاء، إلى عائلتك الكبيرة، رفاقك في الجهاد والنضال ومسيرة الحياة. رحمك الله، عمي حسين، وعوضك عن جهادك بجنة الخلد وتغمدك برحمته الواسعة، ونتضرع إليه أن ينزلك بين إخوانك الشهداء والمجاهدين الأوفياء ويرزقنا في فقدانك جميل الصبر. إن للموت جلالا، كما إن له مرارة وألما، فوداعا أيها الأخ، فوداعا سي حسين ساسي، وعزاؤنا فيك أن التاريخ يفخر بك اليوم وغدا. ملاحظة: لمعرفة المزيد من مسار حياة المجاهد حسين ساسي، الاطلاع على مقال الأستاذ محمد بن عاشور، المنشور في " صوت الأحرار" بتاريخ20 نوفمبر 2017