الانشغال الأمريكي في هذه الأيام بالأوضاع في تونس الشقيقة، لا يبشر بالخير ولا يدفع إلى التفاؤل بمولود تونسي يفوح عطر ياسمين... المخاض الطويل والعسير، فتح الباب وأعطى الفرصة للمتربصين، لتقديم عروضهم في »المساعدة« على عملية الولادة، ويخشى أن يعمدوا إلى تبديل الوليد، وتعويضه بآخر، من غير ما حملت به الساحة التونسية. سرعة تنقل كبير مستشاري البيت الأبيض إلى تونس مباشرة بعد سقوط رأس النظام، والعرض الأمريكي غير البريء في المساعدة على تنظيم الانتخابات، والتحية الحارة التي وجهها أوباما بالأمس إلى الشعب التونسي، تؤكد كلها اهتماما أمريكيا بمستقبل هذا البلد، زائدا عن اللزوم، وبما لا يتناسب وثقل هذا البلد، لا سياسيا ولا اقتصاديا. إذا كانت المؤشرات كلها تبعث على الاعتقاد بأن التحول الجاري بتونس، إنما هو دفق شعبي تونسي محض، وواشنطن مثلها مثل باريس، قد أخذت على حين غرة بالتسونامي الشعبي في تونس، فإن التلعثم الفرنسي وموقف باريس من الرئيس المطاح به، والحماس والتهليل الأمريكي للشعب التونسي، يكشف أن العاصمتين الأكثر تأثيرا تعملان على استرجاع الوقت الضائع، ولم تفقدا الأمل في الالتفاف على تضحيات الشعب التونسي، واستبدال النظام المستبد العميل، بسلطة تضع الاستجابة للأجندات الخارجية في مقدمة أولوياتها حتى ولو تقمصت الألوان التونسية. إن كان صحيحا أن تونس الشقيقة لا تملك من الثروات إلا ذكاء أبنائها وبناتها، وسواعد رجالها ونسائها، ونظام بن علي لم يعرف عنه يوما تصرف يغضب واشنطن ويزعج باريس، فالصحيح كذلك، هو كون ثورة التوانسة أثبتت للعرب، أن الغرب ليس هو اللاعب الوحيد على الساحة العربية، أو لم يعد كذلك، منذ 14 جانفي الجاري الذي أزف بدخول الشعوب العربية الميدان وباستجابة القدر لها، لما أرادت وتوحدت. الطبيعة التي شحت على الإنسان التونسي من حيث الموارد الطبيعية الجاهزة، أعطته من الذكاء والحكمة، ما مكنه من التخلص من أحد أبشع أنظمة الحكم العربية على الإطلاق، بأقل قدر من الدماء والخسائر... فهل يا ترى تعمد العبقرية التونسية إلى تفكيك الألغام المنصوبة في طريقها، وإلى تجاوز الشراك الأمريكية التي تلتف من حول تجربتها؟ إذا كان ولابد من التذكير ابتداء، أنه لا شيء ظاهريا يبرر الشراهة الأمريكية والحماس الشديد لرعاية النظام الوليد، فإن المتابعين للشأن العربي، يفسرون النهم الأمريكي الزائد، بشيء أساسي وثابت في السياسة العربية لأمريكا، وهو حرصها الدائم وعملها الدؤوب على التمكين لإسرائيل في كل البلدان العربية وبخاصة المتوسطية منها، وتونس بموقعها وبنظامها النموذجي في "الانفتاح والاعتدال و»الانمحاء« من الصراع العربي الصهيوني، تمثل مكسبا استراتيجيا في رقعة الشطرنج العربية، وهو ما يجعلها تستحق كل العناية والإهتمام من الإدارة الأمريكية. إذا أمكن تبرير الموقف العربي الرسمي مما جرى في تونس، بأنه إنما هو بوجه من الأوجه تعبير عن الرغبة في عدم التدخل في شأن تونسي داخلي صرف، أو علامة من علامات الرضى لكونه صمتا وسكوتا عما يجري، فهل استمرار العرب في موقفهم المحايد، وسط تهاطل »المساعدات« الغربية يخدم بالنهاية مصلحة العرب؟ أم هو شكل آخر من أشكال العجز والقصور العربي الرسمي، الذي سلم أمره كلية لأمريكا المتصهينة؟.. ذلكم هو السؤال.