قيلت أشياء كثيرة عن الرئيس عبد الناصر، عن تفرده بالحكم، وعن علاقاته المتفاوتة بالقادة العرب وبالزعماء الأجانب. ولا شك في أن كفة الجانب الإيجابي فيه عي التي رجحت وطغت على سلبياته. ولعل علاقته بالمثقفين من أبناء وطنه تظل هي الأنصع والأروع والأبقى، لأنه بين من خلالها أنه كان صاحب رؤية سياسية وثقافية في نفس الوقت. والكتاب الذي نشره الروائي المصري يوسف القعيد عن هذا الموضوع بالذات يتضمن الكثير من الدلائل عن هذا الجانب المشرق في حياة الرئيس عبد الناصر. وهو عبارة عن أحاديث مطولة أجراها مع الصحفي والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ذلك الذي أمضى حياته كلها في حب عبد الناصر، وتابعه لحظة بلحظة منذ أن كان مديرا لصحيفة الأهرام للعتيدة إلى أن توفاه الله. قال عبد الناصر لهيكل ما معناه: عليك أن تدون قصة حياتنا، ذلك أن العمر لن يطول بي في هذه الدنيا! وكان صادقا في قولته هذه وفي تنبؤاته، فقد مات في أواخر سبتمبر من عام 1970، بعد أن حقن الدماء بين عساكر المملكة الأردنية وطلائع فتح والفلسطينيين جميعا، أي خلال الأيام التي عرفت في التاريخ بشهر سبتمبر الأسود. روى محمد حسنين هيكل كل ما عرفه عن عبد الناصر وعن علاقته بالمثقفين المصريين، وأمضى ما يقارب خمس سنوات في أحاديثه مع يوسف القعيد لكي يصل إلى فكرة مكتملة المعالم عن الزعيم المصري في هذا الشأن. وإذا كان من فضيلة لعبد الناصر على أهل الثقافة والفكر في مصر، فهي أنه فتح دونهم المجال بالرغم من أن البعض منهم عرفوا ما السجون في عهده، خاصة المنتمين منهم إلى التيار اليساري من أمثال محمود أمين العالم وغيره. والعالم كله يروي قصة عبد الناصر مع نجيب محفوظ، وكيف وقف مناصرا له حين صدر الأمر بمنع إحدى رواياته التي بدأ نشرها مسلسلة في صحيفة الأهرام. فلقد اتخذ يومها قرارا بمواصلة نشرها على الرغم من الآراء السلبية التي كونها بعض المسؤولين من بطانته عن تلك الرواية. شخصيا، ما زلت أقارن بين موقف عبد الناصر في هذا الشأن، وموقف الجنرال دوغول، ذلك الذي أصدر أمره بعدم التعرض لحياة الفيلسوف جان بول سارتر خلال أحداث ماي من عام 1968، حين قال: لا يمكن أن نلقي القبض على فولتير. والناس يعلمون من هو فولتير. فهل هناك من القادة العرب في زمننا هذا من يحتذي بعبد الناصر وبعلاقاته الإيجابية مع المثقفين؟