ما أن كانت تذكر كلمة "عيد" أمام أبناء جيلنا حتى يتبادر إلى الذهن أجمل وأحلى الأشياء. لقد كان كل شيء يبدو مختلفاً أيام العيد... الأماكن، الناس، الأطفال، المأكولات، الحلويات، المشروبات، الألعاب، المفرقعات. كل الأشياء كانت تغدو جميلة حتى لو كان بسيطة وتافهة. لقد كان العيد من القوة بأن يحولنا إلى أناس مختلفين تماماً، ليس في المظهر فحسب، بل في النفوس والمشاعر والمواقف. لقد كان العيد يملأ الدنيا فرحة وبهجة وسلاماً، ويرخي بسدوله الزاهية على الأجواء عامة. * * ما الذي حصل لأعيادنا؟ لماذا فقدت هيبتها وروعتها؟ لماذا أصبحت الأعياد مناسبة إجبارية ونوعاً من رفع العتب؟ لماذا لم يعد الناس يتأهبون لملاقاة العيد بروح تلك الأيام الخوالي، حيث كانت الطقوس التي تسبق العيد بجمال الأخير أو أكثر؟ آه كم كانت رائعة العشرة أيام التي تسبق عيد الأضحى المبارك، أو ما يسميه البعض ب عُشر العيد«! لقد كانت أياماً مليئة بالروحانية والأمل والحب والصفاء وهدوء البال وفرحة العيال رغم الفقر والعوز. * ربما كان العيد جميلاً لأن الأشياء التي كنا ننتظرها في العيد كأطفال كانت نادرة جداً، ولا يمكن الحصول عليها إلا أيام الأعياد. وبما أن السواد الأعظم من المبتهجين بالعيد كانوا من الفقراء والبسطاء، فقد كان العيد يمثل بالنسبة لهم مناسبة يستمتعون فيها بكل ما حُرموا منه على مدار العام من مأكل وملبس ومشرب وألعاب واستجمام. * كم أرى الفرق كبيراً هذه الأيام بيننا عندما كنا أطفالاً وبين أولادنا الآن. لقد كنا نرنو إلى العيد بعيون كلها شوق وحنين وحب وانتظار جميل. لماذا؟ لأن العيد كان يحمل معه لنا لباساً جديداً، خاصة وأن الأطفال في تلك الأيام الحزينة لم يغيروا لباسهم إلا قليلاً جداً على مدار العام. فكان الأطفال منا يحافظون على ألبستهم القليلة، ويصونونها كعيونهم. والويل كل الويل لمن مزق بنطالاً، أو حذاء. لهذا كنا ننتظر بفارغ الصبر يوم العيد لنلبس البنطال والقميص والحذاء الجديد الذي يشتريه لنا الوالد بعد طول توفير وتخطيط. وبسبب شغفنا الكبير بملابسنا الجديدة في تلك الأيام، كنا أحياناً نضعها تحت الوسادة كي تكون قريبة منا لنلبسها فور انبلاج الفجر وبدء يوم العيد. كنا نتباهى بها أيما مباهاة أمام أهلنا، وأقاربنا وجيراننا وأهل القرية. آه كم أحن إلى ذلك البنطال البرتقالي، خاصة وأنه كان أول بنطال ألبس معه حزاماً بلاستيكياً، بعد أن كنت أرتدي بناطيل بأحزمة مطاطية. آه كم كنت أستلذ بحلويات العيد التي لم أذقها إلا في المناسبات، فبينما كنا نستجدي الفرنك من جدنا وجدتنا ووالدينا كي نشتري علكة أو مصاصة أو قطعة حلوى على مدار العام، كان العيد يوفر لنا مناسبة لنلتهم فيها كل أنواع الحلويات من مكسرات وشوكولاته ومعجنات وغيرها. * وحدث ولا حرج عن الألعاب والمفرقعات التي كانت نادرة بندرة أيام العيد. فلم يكن من الممكن شراء مفرقعات إلا وقت العيد. وللمفارقة، فإن المحلات التجارية لم تكن توفر تلك الأمور في الماضي إلا في مناسبات الأعياد، مع العلم أنها كانت يجب أن تكون متوفرة على مدار العام، خاصة وأنها ليست خضاراً أو فواكه موسمية. * اليوم نحاول جاهدين أن نقنع أطفالنا بأن يوم العيد يختلف عن باقي الأيام، لكن دون جدوى. لم يعد العيد يعني الكثير بالنسبة لأطفال هذه الأيام، إلا ما ندر، ولا حتى لأهاليهم. كم كان أخونا وزميلنا عبد الله العمادي مصيباً عندما تنهد قائلاً: * "لم أقابل أو أجالس أحداً من الأهل والأصدقاء والزملاء في أيام العيد المنصرمة، إلا وكان يأخذ تنهيدة عميقة أو يتأسف ويتحسر على الأيام الخوالي الماضية، من قبل أن يجيب على سؤال واحد محدد حرصت أن أسأله كل من أصادفه وأبارك له قدوم العيد، وهو: كيف العيد معك؟ كانت أغلب الإجابات تدور حول معنى واحد تقريباً هو أن العيد اليوم صار عبارة عن مجاملات وروتين وشبه نفاق اجتماعي لا غير. لم تعد المشاعر هي نفسها القديمة، ولم نعد نشعر بالعيد كما كان من قبل، بل حتى الأطفال، وهم بهجة أي عيد واحتفال، ما عادوا كالأمس، يحرصون وينتظرون ويتشوقون للعيد واحتفالياته.. * زياراتنا لبعض يغلب عليها طابع المجاملة ومن باب أن الزيارات هذه هي حمل ثقيل يجب رميه بأسرع وقت، وحتى لا يقول فلان بأن علاناً لم يزرني ولم يسلم علي بالعيد! تجدنا نسلم على بعضنا البعض ونطلب السماح والصفح، وقلوبنا كما هي لا تتحرك أو تتأثر، بل حتى زيارات المجاملة تلك صارت قليلة وفي نطاق ضيق جداً، لا يتعدى الوالدين وبعضاً من أقرب المقربين من الأهل وليس جميعهم!" * صحيح أن عالم الكبار مختلف تماماً عن عالم الصغار أيام الأعياد، لكنه يؤثر فيه دون أن يدري. ففي العقود الماضية، كان أهلنا يتشوقون ليوم العيد مثلنا وأكثر بصفاء وبراءة عز نظيرهما. كانوا يفرحون معنا بنفس الروحية، فهم أيضاً كانوا ينتظرون الاستمتاع بملابسهم الجديدة، وبالحلويات الجديدة والأكلات الجديدة التي لا يسمح بها إلا جو العيد. * اليوم لم يعد للعيد معنى عند أطفال هذه الأيام، لأن كل أيامهم أعياد بمقاييسنا القديمة. فبينما كنا نحن ننتظر من عام إلى آخر كي نشتري بنطالاً أو قميصاً أو حذاء جديداً، فهم الآن يرفضون حتى الدخول إلى غرفة القياس في محلات بيع الملابس كي يقيسوا البنطال أو السترة. كم أضحك وأنا أرى والداً يصارع مع ابنه كي يقنعه بقياس حذاء جديد، بينما كنا نحلم في الماضي بالحذاء الجديد من عام إلى آخر. كم كنا نفرح للحصول على قطعة لباس خلال العام، ونقيم لها عيداً خاصاً، أما إذا عدت هذه الأيام إلى المنزل وأنت تحمل معك كيساً فيه لباس جديد لابنك أو بنتك، فإنه يرميها جانباً دون أن يوجه لك كلمة شكر واحدة، ناهيك عن أنك ستبذل جهداً فيما بعد كي تقنعه، أو تقنعها بارتدائها. * وكذلك الأمر بالنسبة للألعاب، فقد كان أبناء جيلنا ينتظرون شراء اللعبة من سنة إلى أخرى ليحتفلوا بها يوم العيد. أما اليوم، فقلما تخرج مع طفلك إلى المحلات التجارية إلا ويعود متأبطاً لعبة جديدة قد لا يجد لها مكاناً في غرفته، بعد أن تحولت إلى مخزن ألعاب. * سقى الله أيام أعيادنا القديمة، حيث كان العيد عيداً فعلاً، لا مجرد يوم من الأيام، كما هو حال أعيادنا النيام هذه الأعوام. * أقواس !-- /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-parent:""; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:12.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman";} @page Section1 {size:612.0pt 792.0pt; margin:70.85pt 70.85pt 70.85pt 70.85pt; mso-header-margin:36.0pt; mso-footer-margin:36.0pt; mso-paper-source:0;} div.Section1 {page:Section1;} --