الغاية من الإصلاحات الجارية، بالإضافة إلى الرقي بالعملية السياسية إلى ما هو أفضل، وتحقيق أكبر مشاركة اجتماعية في الحكامة من خلال المؤسسات، والوصول إلى قدر أعلى من الشفافية في عملية التسيير، إنما تستهدف بالأساس إضفاء الشرعية والصدقية على العملية الانتخابية التي هي في أصل وفصل الديمقراطية المنشودة، دون أن تكون اختزالا فجا لها. الإصلاحات الحقيقية، هي حزمة كاملة من القوانين وعلى رأسها القانون الأم، تستهدف بالنهاية إقامة دولة القانون والمواطنة بفضل قيام كل المؤسسات بأدوارها، دون التدخل في صلاحيات الغير، ولا قبول تدخل الغير فيما هو من صميم صلاحيات الطرف الآخر، لكن، وقبل بلوغ هذا الهدف، لابد من المرور حتما عبر آليات عدة، يأتي من بينها، وفي مقدمتها العملية الانتخابية وتحكيم الصندوق في كل منافسة سياسية. ما لم تحظ العملية الانتخابية بكل الصدقية والضمانات المطمئنة لكل الأطراف، المشاركة وغير المشاركة، فإن منسوب شرعية المؤسسات المنبثقة عن الإصلاحات الشاملة والمعلن عنها، يبقى ضعيفا ومهتزا، وبالتالي فإن عملية الإصلاح ذاتها، قد تتلقى ضربة قاصمة. ولاشك أن حزب جبهة التحرير الوطني، من منطلق التجربة والوعي بهذه الحقيقة الأولية، قد وضع في أجندة الإصلاحات المقدمة إلى هيئة عبد القادر بن صالح، اقتراح تشكيل هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات وتديرها وتضمن الحياد الكامل بين المتنافسين، ليس فقط من منطلق الشكوك والطعون التي رافقت التجربة الانتخابية في الجزائر، وإنما أيضا بهدف إرسال رسالة واضحة إلى الأغلبية المتفرجة، مفادها أن هناك نقلة فعلية ونوعية في الممارسة السياسية، وحتى لا يتغيب المتغيبون بدعوى أن الانتخابات لم تغير في أوضاع المواطن والوطن. ولعل إلحاح الأمين العام للحزب والعودة إلى هذه النقطة في الكثير من تدخلاته، إنما تعبر عن الفهم والرؤية التي يراها حزب جبهة التحرير الوطني لإحداث النقلة النوعية المرجوة من الإصلاح، حيث أن المعضلة الأكبر التي تعاني منها الحياة السياسية بالجزائر، هو هذا العزوف المتزايد لدى فئات عريضة من الشباب خاصة عن الانخراط في الشأن السياسي، لذلك يتعين على كل من يريد بعث الحياة السياسية وتنشيطها وإكسابها الصدقية الضرورية، أن يوكل مهمة الإشراف هذه إلى هيئة مستقلة، لتطمئن القلوب ولإقامة الحجة على من تخول له نفسه رفض الإذعان إلى الصندوق. وإنه لمن الغريب جدا، أن هذا الاقتراح الشجاع والحاسم، لم يجد الصدى المنتظر لدى الأحزاب الأخرى التي لم تثن عليه ولم تتمسك به، مما يدل على أن رؤية بعض منها على الأقل للإصلاحات، لا تصب بالضرورة في منطق المنافسة الشريفة، في ظل قانون انتخابي معدل، وتحت إشراف هيئة محايدة، تتشكل من قضاة وشخصيات وطنية مستقلة، مما يعني أن هناك قصورا في النظرة للإصلاحات، وعجزا وخوفا مما يخبئه الغد لبعض الأحزاب المتعودة على الظل وعلى إطلاق الاتهامات العشوائية. إذا كان حزب جبهة التحرير الوطني يراهن منذ الآن على انتخابات ذات صدقية وعلى آليات محايدة لإجرائها، فما ذلك إلا ليقينه من تجذره وسعة وعائه الاجتماعي، وإن كان غيره ليس متحمسا لهذه المقاربة لتوجسه وهشاشة قاعدته وضيقها، فإنه لا ضير إن تمسك حزب جبهة التحرير باقتراحه، لكون وسيلة رئيسة للرفع من منسوب شرعية الحياة السياسية وإعادة الثقة للأحزاب والمؤسسات.