أقر رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة بخطابه أول أمس ميلاد مرحلة جديدة في مسار الديمقراطية التعددية في الجزائر، تتسم بمزيد من الحريات والانفتاح السياسي والإعلامي، وتعزز بشكل فعلي المكاسب المحققة لحد الآن في مسيرة العقدين التي تعثرت بفعل الأزمة الأمنية وما ترتب عنها من تسيير حذر، استدعى اعتماد سياسات تسيير ظرفية منحت فيها الأولوية لاستعادة الأمن واسترجاع هيبة الدولة وبناء المؤسسات والحفاظ على استقرارها.. والحقيقة أن معالم هذه المرحلة الجديدة التي تعكس تطلعات مختلف فئات الشعب الجزائري والفعاليات الوطنية نحو مزيد من الحرية والديمقراطية، تجلت بشكل فعلي عند إعلان الرئيس بوتفليقة قرار رفع حالة الطوارئ في شهر فيفري الماضي ثم تجسيد هذا القرار على أرض الواقع من خلال تبنيه من قبل البرلمان، وهو ما يمكن اعتباره صراحة إقرارا رسميا بنهاية مرحلة الأزمة الأمنية في جانبه المتصل بالمناخ الذي ينظم الحياة السياسية والحياة العامة للمواطنين، بينما حافظت الدولة على نفس الصرامة في مجابهتها لفلول الإرهاب والأعمال الإجرامية. وقد رافق إعلان رئيس الجمهورية عن رفع حالة الطوارئ، التزامه في كلمته بمناسبة ذكرى عيد النصر بإقرار إصلاحات سياسية عميقة، تكون بمثابة التتويج للمكاسب والانجازات الضخمة التي حققتها الجزائر منذ ,1999 وعلى رأسها مكسب السلم والأمن واستعادة البلاد للطمأنينة بفضل تطبيق سياستي الوئام المدني والمصالحة الوطنية اللتين تبناهما الشعب الجزائري بقوة، وما طبع المرحلة من انتعاش اقتصادي وحركية محسوسة في مجال التنمية بفضل رصد الدولة لميزانيات تاريخية وإقرارها لبرامج خماسية أرست دعائم التنمية على مختلف الأصعدة، وأعادت الأمل لفئات اجتماعية متعددة ومنها فئة الشباب التي استفادت في الفترة الأخيرة من إجراءات تحفيزية استثنائية، لتسهيل انخراطها التام في سوق الشغل ومساعدتها على إنشاء مؤسساتها وبعث نشاطات خاصة بها. وقد كانت كل تلك المكاسب المحققة على مدار العقد من الزمن تمهيدا لمرحلة جديدة تتسم بإصلاح سياسي أعمق، لم يتوان الرئيس بوتفليقة شخصيا في وصفها بمرحلة ''التغيير والإصلاح'' والتي ينتظر أن يتحقق فيها التكامل بين البناء المادي للدولة وبنائها السياسي. ومن هذا المنطلق جاء إقرار الرئيس بوتفليقة في خطابه أول أمس لمضمون الإصلاحات السياسية العميقة التي لا زالت تنقص مسيرة بناء الدولة من اجل بلوغها أهداف الإصلاح الشامل، وعلى رأس هذه الإصلاحات إجراء التعديلات اللازمة على الدستور الذي يعتبر أب كل القوانين، بالاعتماد على خبراء القانون والمختصين، مع التذكير بأن أولى الأهداف المتوخاة من هذا التعديل هو تحديد النظام السياسي المنبغي انتهاجه في الجزائر، مع التذكير في هذا الصدد بأن السيد بوتفليقة كان من أشد المنتقدين عند اعتلائه سدة الحكم في البلاد للنمط السياسي المعتمد في الجزائر، حيث لم يخف حينها حرصه على تعديل الأطر المنظمة للنمط السياسي للبلاد من خلال إجراء تعديل جذري للدستور. غير أن أولويات تسيير شؤون البلاد حالت دون تنفيذ هذا التعديل وتم الاكتفاء في 2008 ولأسباب ظرفية بإجراء تعديلات جزئية، أضفت بالرغم من محدوديتها مزيدا من المكاسب على الممارسة الديمقراطية. وإلى جانب التعديل الدستوري المرتقب، فإن الإصلاح السياسي سيراعي إعادة رسم وتنظيم المشهد السياسي في البلاد، من خلال مراجعة القانون المتعلق بالأحزاب السياسية، وذلك بغرض تطهير الساحة وتنظيمها بشكل أفضل وإقرار تعدد نوعي، بعد أن أقر الدستور التعددي لسنة 1989 هذا التعدد من ناحية الكم. كما ستشمل المراجعة قانون الانتخابات الذي ظل تعديله يشكل مطلبا ملحا من قبل العديد من التشكيلات السياسية، وذلك بهدف إضفاء مزيد من الشفافية والنزاهة في العمليات الانتخابية وإقرار حرية اكبر للمواطن في اختياراته، مع الإشارة في هذا الصدد بأن الثغرات المسجلة في هذا القانون ظلت إلى غاية آخر عملية انتخابية تسد بتعليمات رئاسية تشمل مزيدا من الضمانات لنزاهة العملية وتحث القائمين على تنظيم العمليات الانتخابية على الاحترام الصارم لشفافية الاقتراع وقواعده الديمقراطية. وقد حرص الرئيس بوتفليقة لدى إعلانه عن مراجعة القانونين المذكورين على تأكيد ضرورة مشاركة كل الفعاليات السياسية الوطنية في العملية، وذلك توخيا لمصداقية اكبر على عمليات التعديل المرتقب، وتثمينا لكل الجهود والآراء الوطنية، سواء تلك الممثلة في مؤسسات الدولة أو تلك التي توجد خارج هذه المؤسسات، وتفادي أي إقصاء محتمل لأي تشكيل من التشكيلات السياسية المعتمدة. وإلى جانب ترتيب العمل السياسي الخاص بالأحزاب، فإن الإصلاح السياسي الذي يريده رئيس الجمهورية هو ذلك الذي يشرك كافة الفعاليات الوطنية، وتتجلى نجاعته وفعاليته في إيصال صوت المواطن إلى السلطات العمومية والإدارة بشكل خاص، حتى تتم إعادة الثقة بين الطرفين. ولذلك فقد أشار السيد بوتفليقة إلى أهمية تأهيل دور ومكانة الحركة الجمعوية، بشكل يعيد لها مصداقيتها الغائبة، ودورها الحقيقي كمنبر للتعبير عن مشاكل وانشغالات المواطن وترقية مشاركته في الحياة السياسية بشكل إيجابي، مما سيجنب البلاد مخاطر الانزلاق في الفوضى الذي عادة ما يصاحب الحركات المطلبية، والتي قد تستغلها جهات تعمل لمصالح ضيقة. وفي سياق متصل لم تغفل سياسة الإصلاح السياسي المعلن عنها من قبل الرئيس، الحث على تنظيم شؤون التنمية المحلية من خلال توسيع العمليات التشاورية بين الفاعلين على المستوى المحلي، مع تأكيد استعداد الدولة لدعم كل المشاريع الاقتصادية التي يتم ضبطها على هذا المستوى، وذلك بالموازاة مع تكثيف جهود الدولة لمحاربة الآفات الاجتماعية كالفساد والرشوة والمحسوبية، والتي لا يمكن لأي إصلاح أن يتحقق في ظل استمرار انتشارها وعرقلتها لسير المشاريع الاستثمارية الموجهة لخدمة الصالح العام للأمة، وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين، لا سيما وأن جوهر البرنامج الإصلاحي الذي ينشده السيد بوتفليقة يرتكز على إرساء عدالة اجتماعية تفرض فيها المساواة في تلبية الاحتياجات الضرورية كالسكن والشغل والتعليم والصحة، إلى جانب تحسين أداء مؤسسات الدولة في التكفل بانشغالات المواطنين.