الدكتور فاضلي إدريس [email protected] )الجزء الخامس تابع( إننا سنقتصر على النمطين المذكورين اللذين في خضمها نشأ مفهوم الدولة عند الغرب ومن دون استعراض ما ذكر أعلاه لا يكون هناك أي معنى للدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار تعمدنا لعدم التعرض إلى أشكال الحكومات التي قد تنشا في ضل مرحلة الإنتاج الموسع للرأسمال والأسس القانونية التي ترتكز عليها في تنظيم الحياة السياسية والعلاقة القانونية بين الدولة والمجتمع وكذلك الدولة الديكتاتورية لأزمات الرأسمالية، ذلك أن مواضيعها الشيقة لا تضيف جديدا لما نريد أن نرصده بشان الدولة. إن نظرة القانونيين المتجاهلة لظروف نشأة الدولة التي سبقت الإشارة إليها، إذ تتمثل رؤيتهم في قيام الدولة لما يجب أن يتم من خلال توفر شروط معروفة هي: وجود السكان، والأرض أو الإقليم، والسلطة العامة المنظمة. في نظرهم متى اجتمعت هذه الأركان المادية أو الشروط الشكلية تحقق وجود الدولة، وأصبحت نظرية الدولة تتشكل من المفاهيم المتداولة عند رجال القانون الدستوري والقانون الدولي وهي: مفهوم السيادة، الحرية، الفصل بين السلطات، المصلحة العامة، مهمة الدولة، واللامركزية الخ.. وهكذا يستبعد رجال علم القانون من دراستهم، علم السياسة، وعلم الاجتماع ، وعلم التاريخ والاقتصاد إلخ.. وقد لا نجد ضرورة من التطرق إلى التناقضات التي رصدها السياسيون، والاجتماعيون للتناقضات التي تقوم عليها شروط قيام الدولة من منظور رجال القانون، وهل يكفي تحقق الشروط الموضوعية لتفسير ظاهرة الدولة، كما يذهب إلى ذلك رجال القانون الدستوري؟ وقد أجد فيما ذكره الأستاذ الفرنسي الكبير جوربورد ومن أن الدولة هي أكثر وأبعد من أن تكون اجتماع هذه العناصر المكونة، وفي الحقيقة فان هذه العناصر لا تكوّن الدولة، بل أن أقصى حدود فعلها هو التحديد.. ولإنهاء هذا الموضوع أعود إلى ما نقلته عن الفيلسوف الكبير هيجل والمذكورة أفكاره بمصنفنا السابق الذكر ص15 وما بعدها، وقد أشرنا إلى بعضها تباعا في ما سبق من هذه الحلقات، وأنا مقتنع من النظرة الحديثة للدولة قد تكتمل من وجهة نظرنا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما حدده فيلسوفنا بوضوح: »من أن الدولة تعمل دوما في مواجهة تعدد المصالح الفردية، وأنها فوق وخارج هذه المصالح التي يتوجب عليها الخضوع، فهي تملي إذن على المواطنين واجبات دون إمكانية إنكار حقوقهم. إن فلسفة الدولة القائمة على عالم خاص له موقعه خارج وفوق عالم الأنانيات الفردية، وأن الدولة تعمل للمصلحة العامة«. ولتوضيح بعض الشيء هذه الأفكار فالدولة عند هيجل مرتبطة عضويا بفلسفة التاريخ، وتجاه التاريخ هو المكان الذي يجسد فيه العقل تدريجيا، وبما أن العقل يحكم العالم، فان التاريخ الكوني هو تاريخ عقلاني، إذن فالعقل يحقق نفسه في كل لحظة من التاريخ،ويؤدي وصول العقل إلى نفسه إلى الحرية الكلية، وهكذا يتحقق الانتصار على المادة، وليست الدولة سوى تجسيدا لهذه الحرية الكلية .تمثل دولة الحرية هذه بالنسبة لهيجل بروسيا في مطلع القرن التاسع عشر، كان فكر هيجل متقدما بالنسبة إلى مجتمعه البروسي في ذلك العهد، فانتقد ألمانيا الإقطاعية لذلك العصر التي لم تكن لتعرف بعد الدولة وخاصة الليبرالية منها، وذلك ببلورته لمقولة المصلحة العامة الخ.. وما يستمد من ما سبق أن الدولة مؤسسة تاريخية لا مؤسسة أبدية وأزلية، وانه ترتيبا لذلك يمكن استقراء تحديات الغد، وهو المطلوب من العنوان الجزئي المطروح »دولة القانون« كصمام أمان ودعامة ثالثة مضافة إلى ما سبقها، وعندها تصبح الدولة أكثر فأكثر وظيفية، ولتحقق الحلم الهيجلي »الدولة تجسيد للعقل والحرية« المشار إليها في مصنفنا السابق الذكر، أما إذا تتبعنا وجهة النظر من الزاوية القانونية البحتة لتحديات الغد فإننا نجد بوضوح القانونيين مرتبطين بموقف وضعي متزمت فهم يرفضون بصفة عامة أن يسقطوا تحاليلهم على المستقبل، ومما هو مسجل في تاريخ رجال الدولة أن لويس الرابع عشر صاحب القول المشهور »الدولة هي أنا«، قد تلفظ وهو على فراش الموت بالعبارة التالية: أنا ذاهب ولكن الدولة ستبقى دوما.. انه انقلاب غريب وسنعود فيما بعد إلى هذا الفكرة من زاوية فلاسفة مواثيق حزب جبهة التحرير الوطني..، واستمرارا ومن منظور علم السياسة، فالسؤال في مثل هذه الأحوال هو لماذا الدولة؟ أما بالنسبة إلى وجهة النظر الحقوقية فهي تتمثل في: كيف تعمل الدولة؟ أي أن الشروح عندهم فيما يخص الدولة إنما تتعلق بالأولوية والأصول الإجرائية، والمؤسسات، وحتى الأفكار التي تسمح للدولة بان تقوم بدورها كل يوم الخ... من كل ما سبق ما هي الدولة التي نقصد عندما نقول دولة القانون؟ هل هي الدولة القومية التي برزت في أوروبا كنتيجة سياسية للمجتمع الجديد المحكوم بالعلاقات الرأسمالية، والتي حاولت من خلال ما سبق تحديد بعض مراحل ومحاور تطور هذا المجتمع هناك وما له علاقة بالدولة؟ أم هي الواقع القانوني الذي كلما تحددت شروطه قامت الدولة وأصبحت واقعا جديدا عضو في المحافل الدولية على قدم المساواة مع أعظم دولة في الكون؟ أم الدولة هي هذا وذاك، وهل كل الدول توفرت لها فرصة التطور المرحلي، أم هناك نمط ثالث يتميز باختصار المراحل، مع اختلاف الآليات، واختلاف المفهوم بالنسبة لها ونهايتها الحتمية من خلال وجهة نظرهم متى حان أوان المرحة المشاعية كآخر مرحلة في تطور الدولة والتي يطلق عليها الفكر الماركسي مرحلة اندثار الدولة الخ..؟ إن دول العالم الثالث اغلبها إن لم أقل كلها، الدولة فيها وفي وضعها الحالي لا تختلف عن الجسم المنتصب بلا روح، وهل في مثل هذه الأحوال بالنسبة للدول العربية والإسلامية تحديدا أن روح الدولة فيها أليس هو من عند ربي؟ هذه بعض التساؤلات وغيرها لا يستغني الباحث والمهتم من التفكير في الأجوبة عنها كلما دعت الضرورة إلى ذلك سبيلا الخ.. وفي الجزائر لا يختلف اثنان من أن البني القاعدية لمرحلة تراكم الرأس مال التي أنجزتها الثورة الاشتراكية كنمط لعملية التراكم على امتداد ما يقارب ثلاثين سنة، في حاله قد تأثر اليوم رأس المال في جزء كبير من هذا الرصيد، إذ مست عملية الخوصصة التي انتهجت تحت عنوان الإصلاحات الاقتصادية، وتنازل الدولة عن بعض أملاكها، وكذلك بعض عمليات التخريب التي طالت بعض المؤسسات القاعدية أثناء مرحلة الإرهاب . إن ما يخص هذه البني التحتية كما هو معروف ، أن ما تبقى قائما من هذا المال هو ملك للمجموعة الوطنية كلها طبقا للتشريع المعمول به، وقد تعززت هذه الأموال في المدة الأخيرة بانجازات عامة في جميع الميادين، ويضاف إلى هذه القاعة المادية الهامة، ما حققه القطاع الخاص من انجازات مازالت لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، هذا الواقع الجديد للدولة الجزائرية يعطيها بني قاعدية تشكل ما يسمى بعملية تراكم رأس المال، في انتظار مرحلة التحول أو مرحلة إعادة الإنتاج الموسع الذي يشارك فيه القطاع العام، والقطاع الخاص، والذي على ما اعتقد قد يبدأ مع نهاية المخطط الخماسي إذا ما تحققت كل المشاريع المبرمجة وإذا ما صدق حدسنا وما توفر لنا من معطيات... إن الواقع الاقتصادي المتنوع وما يخلفه من نشاط وعلاقات، وما يترتب على ذلك من سلوكات وتصرفات اجتماعية ينتج عنها بالضرورة تنظيم حياة سياسية كبني فوقية ذلك ما يمكن تصوره مستقبلا، وقد يتطلب مدة كافية تتبلور فيها صورة هذا الواقع الجديد وما تفرزه العلاقات فيه إنتاج متنوع في مجالات الفكر والأخلاق والأدب والفلسفة والفن الخ.. هذا ما حاولت تقريبه كصورة لظاهرة الدولة التي فضلت بحثها منفصلة عن ظاهرة القانون، ولعل بعد هذا وعندما يجهر بذكر دولة القانون قد يتوفر للمتكلم والمستمع على السواء مزيدا من بعض الحقائق السياسية والتاريخية، والتقارب في الرؤى الأمر الذي يرتب بعض المسؤولية الأخلاقية المفترضة في من يهم بإصلاح أو يدعو له بشان موضوع الدولة من باب السعي إلى تحسين أحوال المجتمع، أو كلما دعت إلى ذلك الاستحقاقات والمواعيد الانتخابية عموما، قد يجعل من هذا المصطلح شعارا أوبرنا مجا إصلاحيا ما لمعالجة مؤسسة تمثل العمود الفقري للحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجموعة الوطنية كلها والتي يقتضي الكلام حولها بعض من العلم والمصداقية بعيدا عن الجهالة والغوغائية الخ.. إن دولة القانون كانت على الدوام محل اهتمامات حزب جبهة التحرير الوطني ولو لم تذكر بلفظها هذا، فان مدلولها كان حاضرا ومعناها لم يغب على البال وذلك منذ برنامج طرابلس إلى يومنا هذا، وكل ما استجد حول الموضوع ، ويكفي النظر في مواثيق مؤتمرات الحزب والميثاق الوطني ليقف على صدق المسعى وسلامة التوجه. لا ينكر أحد من أن الدولة الجزائرية المسترجعة بفضل وتضحيات جسام قدمها الشعب بأكمله، قد استمدت سمتها الديمقراطية الشعبية من ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، وأن هذه الدولة تسيرها القوانين، تحترم الأخلاق والمثل العليا، فهي دولة لا تزول بزوال الحكومات والأفراد، فالدولة تتجسد بالتحديد في رجل ولكنها ليست هذا الرجل. إن هذا التحديد القانوني يعطي مستقبلا للدولة من أن رسالة كل مؤسسة هي أن تدوم وتستمر، ذلك أن الاستمرارية هي إحدى صفات الدولة أو طبيعتها، لا بسبب الظواهر الاجتماعية والسياسية، الأفراد يتغيرون والدولة ثابتة فهي تشخيص للمجموعة الوطنية كوحدة لا تتغير ولا تنقطع مهما كان تغيير جماعة الحكم فالدولة لا تتغير في ماهيتها، أي يجب عدم الخلط بين وظائف الدولة وما يسند إليها. ثانيا: القانون تناولت في الجزء الأول من الحلقة الخامسة عشر والأخيرة موضوع الدولة وأخضعتها إلى دراسة سياسية تاريخية وسوسيولوجية واقتصادية،وبجانب ذلك تم استعراض بعض الفقرات فيما له علاقة بالزاوية القانونية الخ.. وفي موضوع القانون أجد نفسي مرة أخرى مضطرا إلى الاستعانة بما كتبته في هذا الجانب منذ سنوات من خلال مؤلفنا الوجيز في فلسفة القانون السابق الذكر، وتكون الإشارة وجيزة وبتصرف وما يوضح ما نناقشه بشأن قانون الدولة، في بداية الأمر ثم ضبط العلاقة التي تشكل ما يسمى بدولة القانون هذا المصطلح الغربي الرنان الذي استقدمناه هو الآخر مثل بقية المصطلحات والأنظمة والتجارب إلا ما رحم ربك وفي أضيق الحدود لعل وعسى تكون النتيجة هي نفسها التي يتمتع بها المواطن الأوروبي في دولته من أمن واحترام واستقرار وتنمية وعدالة ورفاهية والقائمة طويلة... إن مصطلح قانون الدولة يعني يجعل ببساطة من الدولة حجر الأساس، هذه الدولة هي السلطة الراسية عبر المؤسسات، وان الدولة ليست الجغرافية والتاريخ ونظام القوانين الإجبارية، بل هي المؤسسة التاريخية الممتدة عبر الزمان والمكان والتواقة إلى تحقيق الحلم القديم الذي راود الفيلسوف هيجل والمتمثل في: العقل والحرية حسب التحليل السابق . إن نظرتنا إلى الدولة يجب أن تتطور وان تناقش على مستوى النخب والسياسيين، والدارسين، والباحثين، وأن لا تبقى محصورة في الشروط المادية السابقة الذكر، بل تتسامى عن كل هذه المعطيات، ووجودها يرتفع إلى مستوى العقل وبالمعنى القوي للكلمة »الدولة فكرة« لا واقع لها سوى على مستوى الإدراك أو الفهم، فالدولة ليست حقيقة خارجة عن البني التي يحاول الفكر الإلمام بها، بل هي الواقع الذي يعبر المفهوم عنها ويبقى الملاحظ أو المهتم عبر هذا المفهوم يفسر مجموعة الظواهر التي تميز وجود السلطة السياسية وليس عملها، وقد شرحنا هذه النتيجة عند مناقشة الجانب القانوني للدولة فيما سبق، إن الاعتراض بان ذلك لا يدخل في فئة الظواهر الملموسة التي يستند عليها رجال القانون عند شروحهم، فانه سوف يمنعنا من فهم الوقائع الملموسة نفسها، فغياب »فكرة الدولة« لا يؤدي إلى انعدام فهمنا ،بل إلى انهيار الوقائع نفسها، وقد استعين بعبارة مناسبة ذكرها السيد الأمين العام لحزب جبهة التحرير في اجتماع اللجنة المركزية الاستثنائي الأخير، »الجسم الفارغ من الروح« تلك هي النتيجة في حالة التقصير واللامبالاة باعتماد )فكرة الدولة(. ومن الأمثلة المبسطة للتدليل على الدولة كفكرة: أن تناقض المجتمع مع نفسه، بعد انقسامه إلى تعارضات يستحيل التوفيق فيما بينها ويعجز عن كبح جماحها، يحتاج مجتمع كهذا إذن إلى سلطة تقف ظاهريا فوقه وتضبط الصراع في إطار نظام معين ليس لهذا الإطار إلا الدولة الخ..، لابد أن تكون دولة قانونية ،أي سلطان القانون ينظم علاقات الأفراد، ويستهدف هذا التنظيم إقامة نظام اجتماعي عن طريق تنظيم العلاقات المختلفة التي تنشأ بين أفراده تنظيما عاما يكفل له المجتمع الحماية والاحترام بالإرادة الحرة لإفراده، أو بقوة القانون عند الاقتضاء، فالقانون أداة تنظيم هذه العلاقات سواء كانت في شكل قواعد أخلاقية أو عرفية غير مكتوبة ،أو كانت في شكل قواعد تشريعية مكتوبة الخ..هذه صورة اليوم بعدما اكتملت معالم الدولة الأوربية في القرنين السابع والثامن عشر على نحو التطور الذي حددناه فيما سبق.أما الصورة الأولى التي كانت عليها المجتمعات التي تعاقبت عبر التاريخ فتتمثل في المجتمع البدائي القديم، ثم المجتمع العبودي، فالمجتمع الإقطاعي، وآخرها الرأسمالي، وبالتأكيد لم تخلوا هذه المجتمعات من وجود السلطة فيها، وكيفما كان نوعها، إلا أنها مع ذلك لم تكن قد عرفت عهد الدولة