الحلقة العاشرة: الأفلان بين ديمقراطية المعمول والمأمول /3 - ب سوف أخصص بعون الله تعالى فصولا فيما يأتي من الحلقات لمناقشة هذا العنوان غير مكتف بحلقة واحدة، أملي في ذلك أن أبرز ما يمكن إبرازه من خصوصية وانفرادية في تحديد هذا المفهوم أو ذاك، تكون قد ترسخت في أدبيات حزب جبهة التحرير الوطني، وبخاصة ما تحصّن منها عبر التجربة والممارسة على مرّ السنين، إن مساهمتي المتواضعة هذه والتي ارتأيت بسطها للاطلاع والتأمل وعلى أوسع نطاق ممكن من الرأي العام المهتم، والمتتبع لما يعرفه الحزب من نشاط، آخذا في عين الاعتبار انطلاقة هياكلنا الحزبية في توفير الجو الملائم للشروع في التحضير المسؤول لإنجاح أشغال المِؤتمر التاسع. ينصرف مفهوم المجتمع المركب إلى الديمقراطية الكلاسيكية أو الليبرالية، حيث تتعايش الأكثريات والأقليات، ويقر بوجود التعددية الحزبية، ويعترف بشرعية التعارض بين سلطة الدولة والحقوق الفردية للمواطنين، والاعتراف بحق مقاومة الطغيان الخ..، والحاصل أن مناخ الحياة السياسية في الديمقراطية الليبرالية يقوم على التسوية بين الأكثرية والأقلية ، مع الاحتفاظ بالحريات الفردية،وبهذا فالطابع المميز والحالة هذه هو العمل بصيغة التسوية بين سيادة الدولة كممثل للمجتمع وسيادة الأفراد. مصطلح الإجماع أصبح منذ قيام النظام الاشتراكي في الإتحاد السوفيتي من أدبيات الفكر الماركسي، بل ويعتبر الهدف الأمثل عند الديمقراطيات الماركسية، وبالنسبة لاستعمالات هذا التعبير في مسار حزب جبهة التحرير الوطني فكانت كل القرارات التي تتخذ بعد مداولات القيادة السياسية في اجتماعاتها الدورية تتم بالإجماع، أما بعد الدخول في مرحلة التعددية وما عرفته الدولة من محن وعرفه حزب جبهة التحري من أزمات، فكانت أيضا جل القرارات التي صادقت عليها القيادة السياسية والتي كتب لها النجاح هي تلك التي حظيت بإجماع هذه القيادة، وعليه اعتقد أن الإجماع يبقى مرجعية من مرجعيات حزب جبهة التحرير الجديرة بالاهتمام والمراجعة . إن الإجماع في المفهوم الماركسي هو ما يتفق فيه الأفراد كلهم على كل شيء تتحقق فيه جميع الأماني التي يقتضيها التصور المثالي للحرية، من جهة لا يلتزم كل فرد إلا بالتصرف الذي يرتضيه، ومن جهة أخرى يكون كل قرار جماعي من فعل الجميع. فالأفراد يتمتعون جميعا بحرية مطلقة وفي ذات الوقت يِؤيد الجميع السلطة تأييدا مطلقا. وهذا ما تمثله فكرة المجتمع الإجماعي أو الحكم الذي ينال الإجماع وهي أفكار سبقت ظهور الفكر الماركسي. ولتحقيق ذلك يكفي حسب كارل ماركس خلق الظروف الموضوعية للحرية الحقّة، عن طريق الثورة، أي إلغاء الطبقات وإقرار المساواة الفعلية بين الناس، وعندها تزول تدريجيا التناقضات بين المصالح والآراء. إن ما يمكن استخلاصه من هذا التفسير، أنه تضمن نصيبا كبيرا من الحقيقة، وفي المقابل أنه جعل من المساواة حجر الزاوية كما يقال، وجعلها الأساس البديل للديمقراطية الماركسية ،وحلها محل الحرية التي أهملها ودحرجها على ما يبدو إلى المرتبة الثانية. أما بالنسبة إلى التفسير الثالث، فهو تفسير فقهي ينسب إلى العميد جورج فيدال، والفقيه الأمريكي توكفيل في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا وفكرة المساواة،ذلك انه حتى نكون بصدد شكلان متناقضان للديمقراطية في العالم، ديمقراطية ليبرالية، وديمقراطية تسلطية وماركسية، فانه يجب أن يكون بينهما تناقض أساسي، فالتناقض الحاصل حسب وجهة الرأي لدى المؤرخين ترجع إلى الوجه الوظيفي... فالفقيه جورج فيدال يرى التناقض في الثنائية التي تقوم عليها الحرية والتي سبقت الإشارة إليها أعلاه، إنما ينعكس في تعقيد مفهوم الديمقراطية، ذلك آن الإيديولوجية الديمقراطية تحمل طموحين متناقضين تماما، كالطموح نحو الحرية والطموح نحو المساواة . غير أنه لا يقوم أي نزاع حول كون هذان الطموحان يشكلان جزءا من الإيديولوجية الديمقراطية، وتبقى فضيلة الحرية عند الفقيه شيئا أساسيا في تعريف الديمقراطية. إما ما يدلل به تحليله هذا المرتكز على مفهوم المساواة عند الفقيه توكفيل، من أن الثورة الفرنسية ومنذ إعلان عام ,1789 قد وضعت على قدم المساواة، فكرة الحرية وفكرة المساواة، وكذلك ما ورد بشأن حقوق المواطن من نفس السنة في مادته الأولى التي تنص على أنه: ''يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق''. أما التناقض القائم بين الفكرتين فيتمثل في أن ممارسة الحرية تؤدي إلى خلق عدم المساواة، والعمل على إقرار المساواة يؤدي بصورة حتمية إلى الحدّ من الحرية. والحاصل أن التركيز على الحرية أو على المساواة يؤدي بصورة حتمية إلى الاتجاه نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو الديمقراطية التسلطية أو الماركسية. إن الديمقراطية الليبرالية لاتتنكر للمساواة، ولكنها تهتم بالمساواة في الحقوق، ومن منظورها أن المساواة لا تعتبر في أساسها إلا نوعا من الحرية الإضافية فهي تقر نوعا من المساواة في الأوضاع، وإذا استعملت استعمالا جيدا فإنها تؤدي إلى التعادل بين الأفراد في الواقع... وبالنسبة لأنصار الديمقراطية الماركسية فهم أيضا لا ينكرون الحرية، غير أن الحرية الحقّة لا تنال إلا إذا أقرت المساواة، وإقامة الحرية تتطلب ولو لفترة على الأقل قيام حكومات تسلطية والقضاء على المعارضة وحتى على الخلافات، وبالتالي يتحقق إقرار إجماع، وهي في البداية ولكنه يصبح في النهاية إجماعا حقيقيا ، وفي هذا الصياغ نرد فقرة مما ذكرناه في مرجعنا الموسوم الوجيز في فلسفة القانون ص55 ''... من أن ستالين أكد سنة ,1930 بمناسبة المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي من أن بناء الاشتراكية يؤدي إلى حدّة الصراع الطبقي وليس إلى التخفيف منه، ومن ثمة فالدولة السوفيتية قبل أن تتلاشى يحب أن تصبح قوة عظمى لا مثيل لها في العالم الخ... ''وبعبارة أخرى أن الدولة الماركسية ورثت نفس الأدوات ونفس الأسلوب للدولة الرأسمالية طول فترة الانتقال .. والخلاصة أن تعريف الديمقراطية الليبرالية أو الغربية عن طريق الحرية، وتعريف الديمقراطية التسلطية والماركسية عن طريق المساواة إنما يأخذ بعين الاعتبار التناقض الأساسي القائم بين النظامين.. إن التناقض القائم بين الديمقراطيتين، من حيث منح الأفضلية والأولوية للحرية، آو للمساواة يتجلى تفسير ذلك بالوصول بالديمقراطية الليبرالية أو السياسية إلى الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية ، ومردّ ذلك إلى أن الديمقراطية الحقة إنما تتمثل أيضا في الجانبين الإقتصادي والاجتماعي، ذلك أن معنى الديمقراطية في مدلوله منذ النشأة إنما يتمثل في:.. حكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب.. وهو تعريف أكثر دقة وشمولية والأكثر شيوعا ، ذلك أن حكم الشعب إنما يمتد ليشمل إدارة الاقتصاد، ومجال الأمن، والعدالة الخ..فالدول الغربية إذا نجحت إلى حد بعيد في تحقيق شكل مقبول من الديمقراطية السياسية عن طريق الحرية ، فإنها في المقابل لم تأخذ بعين الاعتبار بما يسمى بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية ، بل أدى تطور الرأسمالية إلى بلورة المنظور الديمقراطي السياسي بالميكانيزمات والأدوات المتلائمة مع نمط البناء البورجوازي للحياة الاقتصادية والاجتماعية من حيث الإنتاج، والاستهلاك، والثقافة الخ... أما بالنسبة للدول التي انتهجت الإيديولوجية الماركسية فإن ديمقراطيتها تقوم على أساس فضيلة المساواة، التي لا يتصور تحقيقها خارج الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، ومن هذا المنطلق جاء الاهتمام بالديمقراطية السياسية أقل، هذه الأخيرة كما هو معروف تقوم على التعددية الحزبية، والتنافس على السلطة بواسطة الانتخابات، والفصل ما بين السلطات، وعلى العكس من ذلك يتطلب الوصول إلى تحقيق المساواة كأساس للديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية وجوب توافر ميكانيزمات تتمثل في العمل بأسلوب الحزب الواحد، الانتخابات غير التنافسية، غياب الرقابة البرلمانية بالمفهوم الليبرالي باعتبار البرلمان يقوم بوظيفة، وليس بسلطة إذ لا تتجمع فيها تيارات المعارضة التي تتطلب بشكل أساسي التعددية السياسية الخ...وكذا قلة الاهتمام بالحريات الفردية على النمطية الليبرالية.. لقد اعتقدت الليبرالية الغربية أنها باعتماد شكل الديمقراطية السياسية القائم على أساس الحرية سوف تحقق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. وعندما قامت الثورة السوفيتية عام 1917 كان أملها أن تصل إلى تحقيق الديمقراطية السياسية عن طريق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على أساس المساواة أولا وقبل كل شيء.. ومن خلال مسار الحياة العامة وممارسة السلطة السياسية وتحقيق الديمقراطية الليبرالية، لجأت هذه الأخيرة إلى إعطاء الحرية اهتماما خاصا كالمناداة بالحريات العامة لكل المواطنين، والتأكيد على المساواة في الحقوق المتمثلة في الوصول إلى الوظائف العامة السياسية، وإقرار الاقتراع العام ،الذي يستهدف من ورائه توزيع السلطة السياسية بين المواطنين بالتساوي. وفي الاعتقاد انه بعد هذه الخطوة وما بصحبها من تنظيم يتم السعي إلى توزيع السلطة الاقتصادية أيضا بشكل متساو، وفي هذا الإطار عرفت اغلب الدول الأوروبية ثورات وهزات اجتماعية عنيفة بقصد القضاء على مخلفات القرون الوسطى ومن بقايا النظام الإقطاعي، والتفاوت الطبقي، والاستئثار واحتكار المزايا والحقوق وتوارثها، وفي هذا الخضم قامت الثورة الفرنسية عام ,1789 فنادت بمبادئها الثلاث الخالدة: الحرية المساواة الأخوة. كما اعتقدت الديمقراطية السياسية، انه عن طريق اقتصاد السوق الحرّ القائم على قانون العرض والطلب، يتحقق لكل مستهلك أو بالأحرى لكل مواطن من ممارسة سير الشؤون الاقتصادية، وان انتشار السلطة الاقتصادية تتم بصورة طبيعية مع انتشار السلطة السياسية هكذا كان ومازال حلم الديمقراطية الليبرالية، وهذا تفسيرها للحرية كأساس تتحقق من ورائه كل الرغبات، وبذلك تتحقق سعادة الفرد ويتحقق فردوس الدنيا الخ.. ولم تستفق الديمقراطية الليبرالية من حلمها الجميل، إلا بعد أن هزت الاضطرابات الاجتماعية وثورات العمال والبطالين المكدسين في المدن الأوروبية الكبيرة التي سكنها الفقر والمرض والبؤس، وعودة طبقية جديدة قوة أصحابها هذه المرة تتمثل في مالكي الإنتاج ووسائله، وفي المقابل قامت طبقة العمال الأجراء آو البروليتاريا، و ترتب عن التفاوت الطبقي تركيز هائل للسلطة الاقتصادية بين أيدي أرباب العمل وأصحاب المشاريع والطبقة الرأسمالية التي نشأت واستفادت من ثمار الثورة الصناعية، ونتائج التجارب العلمية، والتكنولوجية الخ.. وهكذا حدث التناقض العميق بين المساواة الاقتصادية والسياسية المرجوتين والمبشر بهما من أنصار ديمقراطية الليبرالية على مدار قرن ونصف قرن، إلا أن أ شرقت ثورة من أقصى الشرق تحمل بين طياتها أمال وأحلام المستضعفين في الأرض التي أجهضت كما هو معلوم بعد مسار قصير وبقيت في عمومها تجربة إنسانية تحتاج ربما إلى قراءة متأنية والعمل على بعثها من جديد بعد تمكينها من تصحيح ما علق بها من أخطاء ولحقها من قصور في فهم طبيعة الإنسان المعقدة. لقد أدى المشهد المؤلم الذي أدت إليه الديمقراطية الليبرالية وما نتج عنه من ظلم وبؤس، إلى تأسيس النظرية الماركسية التي نادي بها كل من: كارل ماركس الألماني، فريدريك أنجلس الإنجليزي والتي ارتكزت كما هو معلوم على وجوب إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتحويل هذه الملكية إلى الجماعة، باعتبارها مصدر التفاوت والطبقية، والبؤس وكل الحروب ،وبذلك فقط يمكن الحديث عن الديمقراطية الاقتصادية وترسيخها وتحقيق الديمقراطية السياسية على قواعد صلبة وأكثر ثباتا الخ... ومن الانتقادات التي وجهتها النظرية الماركسية إلى النظام الليبرالي في الغرب بأن ديمقراطيته شكلية، وأنها منتجة لصراع الطبقات الذي يؤدي إلى جعل الدولة مجرد أداة أو جهاز ضغط في أيدي الطبقة المسيطرة، وهي البورجوازية، ويبقى الأمر كذلك مهما ارتدت الدولة شكلا ديمقراطيا، فتبقى على الدوام في خدمة الطبقة الحاكمة، في حين في المجتمع الاشتراكي تزول الطبقية وتزول معها سلطة أصحاب المال، فتصبح الديمقراطية والحالة هذه واقعا ملموسا بالنسبة للجميع.. ويضيف ماركس ولينين في باب آخر بان الحريات في البلدان التي قامت فيها ثورة اشتراكية، لم تعد فيها الحريات مسألة نظرية فقط بل تصبح مقرونة بوسائل تحقيقها، إذ تنص دساتير هذه الدول في الغالب بالنسبة لكل حق أو حرية، الشكل الذي يمكن بواسطته ممارسة هذا الحق وتأمينه، بعكس ما هو عليه الحال في العالم الغربي. كما سبقت الإشارة لم تسعف الظروف استقرار التجربة الاشتراكية كاندلاع الحرب العالمية الثانية وما تركته من خراب ودمار وتكلفة أثقلت كاهل الإتحاد السوفيتي، وكذا المنعطف الخطير الذي مرت به النظرية كما شرح ذلك الفيلسوف ''روجي غارودي'' وعدم التمكن من إدخال التصحيحات والمراجعات في حينها من طرف منظريها بعد صفقة إنهاء الحرب الباردة وتحطيم جدار برلين التي قام بها مسئولون سياسيون والبقية معروفة...لذلك ما يعاب على الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية من أنها لم تقض مطلقا على الحرمان الذي يعانيه العمال والاغتصاب لبعض حقوقهم، ولو أن الأمر يختلف في تجربة يوغسلافيا إذ كان العمال هناك يمارسون الرقابة في إطار التسيير الذاتي للمؤسسة الخ.. ومجمل القول تبقى الديمقراطيات الغربية، تسير في طريق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية ، فالتأمينات، والتخطيط التوجيهي ،وتوزيع الدخل عن طريق الضريبة، وعن طريق القوانين الاجتماعية ، تشكل تحولا ملحوظا، فالتأمينات، والتخطيط التوجيهي، والاعتراف بالحقوق الاجتماعية كلها تطبيقات مأخوذة عن النظرية الاشتراكية وتطبيقاتها. إن إكمال الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية ليس بالأمر السهل لما لها من صعوبة تقنية تطرح عند الحل من تحريك السياسة على المستوى الوطني وفي مستوى المشاريع، وكذلك لسرعة وتيرة الحياة الاقتصادية مقارنة بوتيرة الحياة السياسية. وللحديث بقية..............يتبع