لا اختلاف على أن الحياة السياسية في بلادنا تفتقد إلى الحيوية، وهذا نتاج عقود كاملة من التكلس السياسي، وقد تكفي هذه الحالة لتفسير العجز في بروز قيادات جديدة حاملة لمشروع مستقبلي، وهذا ما نلاحظه من خلال عودة الوجوه القديمة لتتصدر قائمة التشكيلات السياسية قيد التأسيس. إن الملاحظ هو أن هناك أطرافا- تنتمي إلى المعارضة تحديدا- لا تريد أن تصل الإصلاحات إلى العمق الشعبي ونحدث التغيير المطلوب، من خلال إشاعة أجواء التعتيم عليها، وكأن لا جديد في الحياة السياسية، فلا نقاش ولا تعليق ولا اهتمام، مما يبعث الاستغراب حول هذا السلوك العدمي الذي يؤكد أن النخبة السياسية والثقافية التي وضعت قضية الإصلاحات في قلب الجدل العام طيلة شهور وشهور، لم تحفل أصلا بتلك الإصلاحات، وهذا في محاولة منها لإهالة التراب عليها في المهد وجعلها لا حدث! بالتأكيد، فإن الهدف واضح من ذلك التعتيم المتعمد الذي يرمي إلى الإفشال المبرمج للإصلاحات، لكن في المقابل يجب التساؤل لماذا لا أحد يسمع الآخر ولا أحد يثق في أحد، ما يجعل الجدل الراهن "حوار طرشان" بامتياز!؟ ينبغي الإقرار بأن أزمة عدم الثقة عميقة، ليس فقط بين الموالاة والمعارضة ولكن أيضا في أوساط النخبة السياسية وبين أفرادها وتنظيماتها، مما أدى إلى غياب "المشاركة الجدية" أو الدور المؤثر في تقرير السياسات العامة وإدارة شؤون البلاد• إن الإصلاحات التي أقرها رئيس الجمهورية مهمة بكل المقاييس، رغم المآخذ المسجلة - وهي جديرة بالنقاش - لكن المؤكد هو أن حزمة الإصلاحات لا تكفي وحدها لتحريك المياه الراكدة والآسنة، بل ينبغي أن تكون مصحوبة بإجراءات صارمة لإحداث التغيير، الذي يستجيب لتطلعات الشعب• آن الأوان للقيام بحملة تنظيف واسعة، تطهر السياسة والمسؤولية والوظيفة العمومية من الجراثيم التي التصقت بها، فماذا يفيد قانون أحزاب جيد، إذا كانت الأحزاب لا تؤمن بالتداول وتكرس في ممارستها الرداءة والانتهازية والفساد السياسي والزعامة الأبدية، ولنا في المشهد الراهن ألف مثال على أولئك "الزعماء" الذين لم يبرحوا كراسيهم منذ أكثر من عقدين، لكنهم لا يستحون من الحديث عن التداول على السلطة، هل أصبحت الأحزاب ملكيات خاصة للزعيم الأوحد! أيضا، هل يكفي أن نملك قانون انتخابات ديمقراطيا، حتى نضمن للانتخابات الشفافية اللازمة والنزاهة المطلوبة، وكذلك هو الأمر بالنسبة لقانون الإعلام وقانون الولاية، أم أن الأمر يقتضي أن نتشبع جميعا بثقافة جديدة، تجعل الطبقة السياسية تعيش للسياسة ولا تقتات منها، تحرر الحكام من عبودية السلطة وتسهم في تحرير المحكومين من عبوديتهم للحاكمين. يصبح قانون الأحزاب ذا أهمية بالغة، إذا أصبحت تلك الأحزاب منابر للحوار ومشاتل للأفكار وصار التنافس بين مناضليها على أشده من أجل خدمة الجزائر وليس التقاتل على المراتب الأولى في القوائم الانتخابية لحصد المنافع والامتيازات على حساب القيم والمبادئ وأخلاقيات النضال. ودواليك إلى أمثلة أخرى، فقانون الولاية، مهما بلغ من الجودة، يظل مرهونا بالتطبيق الصارم، في إطار الاحترام لصلاحيات كل الهيئات، لكن ما جدوى كل ذلك في ظل وجود ولاة تحولوا إلى ملوك وأباطرة، على حساب ممثلي الشعب في المجالس البلدية والولائية• إن نجاح الإصلاحات مرهون بفتح الأبواب أمام رياح التغيير، من أجل »كنس« كل الذين أصبحوا عنوانا للعجز والفشل والتلوث، في الوزارات والولايات والإدارات المركزية، ذلك أن »عبودية« المسؤولية تشيع الفساد والإفساد وتنشر مناخا من عدم الثقة بين الحكام والمحكومين وتلغي إحساس المواطنين بالمواطنة والانتماء، وفوق هذا تبعدهم عن الشأن العام، لأن الوطن في هذه الحال يصبح للبعض دون البعض وكأن مناصب المسؤولية حكر على هذا البعض دون غيره! إن الوضع الراهن في الجزائر يضعنا أمام مفارقة مثيرة للدهشة، ذلك أن الدعوات التي تنادي بالإصلاحات لتأسيس نظام ديمقراطي يكرس سيادة الشعب، إنما يبدو أن أصحابها يتوجسون خيفة من الاختيار الشعبي وهم لا يريدون أن يغامروا بالخضوع إلى اختبار الانتخابات، ولذلك فهم يعملون على إفشال الإصلاحات، بالتشكيك فيها ومحاولة تشويهها والعمل على التحريض على العنف لإحداث التغيير الذي يحلمون به. وبما أن الحديث يجري دائما عن تركيا النموذج، فإن المؤكد هو أنه ليس لحكومة حزب العدالة والتنمية مصلحة متميزة عن المصلحة الوطنية التركية، والمؤكد كذلك أن بال أردوغان ليس مشغولا بكيفية البقاء في الحكم ولا توريثه لأبنائه، رغم حرصه الأكيد على فوز حزبه في الانتخابات، إن الأمر يتعلق هنا بقيادة مفوضة ديمقراطيا، لا تعيش من السياسة ولا تؤمن بالخلود في السلطة• إذن، ما لم تنجح الإصلاحات في جعل الطبقة السياسية تعيش للسياسة ولا تعتاش منها وجعل النواب يمثلون الشعب ولا يمثلون عليه، فإنها تبقى مجرد نصوص بلا أهمية ولا فائدة، ذلك أن المطلوب هو أن يصبح الشعب هو القضية وليس مجرد مطية إلى معلمي الشيخ عدواني بداية، اعذرني إن جاءتك كلماتي متأخرة، وأنت الذي علمتني أبجديات الكلام، إن نسيت، أستاذي الجليل، فلن أنسى طلتك في ذلك اليوم من تلك السنة البعيدة، أنت القادم من بلدتك لتضطلع بأمانتك أحسن اضطلاع وأنبله، حاملا تباشير النور إلى مدرستنا، إيذانا بأن الجزائر قد عادت إلى أهلها وأنها استعادت ذاتها وهويتها وسيادتها، وقد كنت، يا سي عدواني، واحدا من أولئك الطلائع الذين انتشروا في ربوع الوطن لنشر العلم والتمكين للغتنا العربية، بعد زمن المسخ والتجهيل والتفقير والإبادة. كنت في ريعان شبابك، ولازلت أتذكر كيف كنت تسارع الخطى، تملأ الآفاق بصوتك المميز، وكأنك تتحدى الزمن، بعزيمة لا تلين، تؤكد إصرارك على أن هذه الأرض الطيبة والمجاهدة يجب أن ترفع التحدي بأجيالها المسكونة بحب العلم وتقدير العمل والتضحية من أجل إعلاء مجد الجزائر. آه معلمي الفاضل، كم يحز في نفسي أني لم أحقق ما كنا نتمناه، فمنذ سنوات وأنا أحلم بأن نقيم حفلا لتكريمك، ومن خلالك كل الذين يعود لهم الفضل الكبير في تعليم أجيال وأجيال، فمن غيركم أستاذي العزيز، يستحق الإكبار والتقدير، أنتم الذين كنتم الشموع المضيئة التي تنير دروب الأجيال، تسلحهم بالعلم وحب الوطن والوفاء لشهدائه. لم يسعفني الحظ في أن أحقق حلمي، الذي كنت مسكونا به طيلة سنوات، لقد غدر بي الزمن وشاء لك القدر أن ترحل إلى دار الخلود، أنت الذي ستبقى ذكراك حية في القلوب،كيف لا وقد أفنيت عمرك في أداء رسالتك النبيلة، لا يقترب منك ملل ولا ينتابك كسل ولا ينال من إرادتك نكران أو جحود، بل كنت نعم المربي، تغرس النبت الطيب الذي سيثمر يوما. هل تدري، فقيدنا العزيز، أني أياما قبل رحيلك، قضيت لحظات جميلة في صحبتك، لقد تجسد حلمي في حنايا الأحلام، وقفت خطيبا أسرد خصالك ومناقبك وتفانيك وتضحياتك وعطائك اللامحدود، بينما كنت محاطا بتلاميذك الذين أصبحوا رجالا، بفضلك وفضل أمثالك، جاؤوا ليعترفوا لك ولمن هم مثلك، بأن من علّمهم حرفا صار لهم سيدا، فهل تعرف، يا سيدي، بأن حزننا عليك ليس لفراقك فقط، بل لأننا لم نفك حقك وأنت صاحب الحق الكبير. تماديت في حلمي الجميل، وأنا أراك سعيدا بهذا الاحتفاء الذي يغمرك بالحب والعرفان، لكن حلمي لم يطل، ووجدتني أقرر هذه المرة أن نقيم لك حفلا يليق بمقامك، تحتضنه ساحة المدرسة التي استقبلناك فيها أول مرة، إلا أنك، يا سي عدواني، قد آثرت الرحيل، وكأنك انتظرتنا طويلا فلم تحصد إلا الانتظار. إن كلماتي هذه، هي اعتذار منا، نحن الذين تعلمنا على يديك الحروف الأولى وفتحنا تحت رعايتك صفحات الكتاب الأول وعشقنا معك لغتنا الجميلة..قد نكون، شيخنا العزيز، أهملنا حقك علينا وواجبنا نحوك، أنت الخلوق العفيف المتواضع..إنها غواية الدنيا التي دفعت بنا نحو عوالم التيه التي أنستنا ما لا يجب أن ينسى، ذلك هو الحال، حتى وإن كنت حاضرا أبدا، لا تبرح الذاكرة ولا تغيب عن الوجدان. فعذرا معلمي وأستاذي، إن جاءتك كلماتي متأخرة، إن لم أستطع أن أهمس بها إليك، إن حرمني لهاث الحياة من أن أعترف لك بفضلك، أنت الجدير بكل التقدير. وها أنت تودعنا دون أن نقول لك وداعا، ذلك أنك تسكن الحرف الذي علمتنا إياه، وهو الذي يأبى أن يرحل.. إنه وسام حب وتقدير مني ومن تلاميذك ومن أهل ليشانة الكرام، الذين يذكرونك بكل خير ويعتذرون منك عن التقصير في رد الجميل. إليك ألف تحية ومحبة وسلام، يا سي عبد السلام عدواني، وليتغمدك الله برحمته الواسعة وليدخلك جنة الرضوان. تلميذك: نذير. ب " قل ما شئت فإن الأرض ستظل تدور.."