يصنف النظام السياسي الليبي في جل الكتابات ووفق رأي معظم المراقبين ضمن الأنظمة الفردية، على الرغم مما يعلن عنه الجانب الليبي من أنه حكم ديمقراطي "فريد" يقوم على المشاركة المباشرة في صناعة القرار لكل فئات المجتمع عبر المؤتمرات الشعبية التي تنتشر في جميع الأحياء السكنية في المدن المختلفة. ورغم انعقاد تلك المؤاتمرات بصفة دورية، مرتين كل عام ومناقشتها لمختلف القضايا التي تهم المجتمع الليبي بما في ذلك قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، فإن التجربة لم تنجح في تعزيز المشاركة السياسية وتطوير منظومة صناعة القرار، وذلك بإقرار مصمم النظرية العقيد معمر القذافي وبشكل أكثر صراحة من قبل نجله سيف الإسلام. ومظاهر عدم نجاحها تتمثل في تراجع أعداد المشاركين في العملية السياسية، وجمود آليات سلطة الشعب في معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها البلد. فالملاحظ أن كل حراك يبعث الروح في الواقع السياسي الاقتصادي المتكلس، غالبا ما يأتي من خارج المنظومة الشعبية، ومثال ذلك الحراك السياسي والاقتصادي المشاهد اليوم الذي يقوده نجل العقيد سيف الإسلام. الهيكل الرسمي وصناعة القرار الشكل الرسمي لآلية صناعة القرار يبدأ من مؤتمر الشعب العام (البرلمان) الذي هو بحكم درايته بالسابق واللاحق من التوجهات والسياسات والقرارات المنفذة والمتعثرة، مخول بوضع جدول أعمال الدورات العادية والاستثنائية للمؤتمرات لأهم المسائل التي تستدعي النقاش، وتصدر بحقها القرارات وتصاغ في مؤتمر الشعب العام في دورة انعقاده السنوية. نظريا مؤتمر الشعب العام يختار اللجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء) ويراقبها ويحاسبها ويملك صلاحية إقالتها، وهي ملزمة بتنفيذ ما اعتمد من قرارات. ولم يحدث أن أقيلت لجنة شعبية عامة من قبل مؤتمر الشعب، ولا يختار أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء) بأي شكل من أشكال الاقتراع الحر والمباشر فهو يقترح من قبل أمانة المؤتمر العام ويقر تعيينه المؤتمرون. وتفرض على أمين اللجنة الشعبية العامة قيود تجعل أداء جهازه أقرب للروتيني، كإلزامه بالتكيف مع فريق عمل لا يختاره، وعادة ما يكون من المنتسبين للتيار السياسي الأقوى، اللجان الثورية، مما يعني التزامهم بتوجيهات من خارج اللجنة الشعبية العامة. ومثلت ظاهرة تنازع الولاءات وسيطرة ذوي النفوذ من التيار الثوري على القرار، أحد أبرز أسباب شلل الجهاز التنفيذي وتراجع مهمته إلى مجرد جهاز يلتزم بما يقرر له من قبل دوائر أكثر نفوذا. مكانة القذافي في النظام السياسي لا يوجد منصب رسمي في الهيكل السياسي للعقيد القذافي، والمنصب الرسمي الوحيد له هو "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، إلا أن نفوذه وتأثيره على منظومة القرار ظاهرة. وظلت مسألة صياغة السياسات وصناعة القرارات خصوصا الحيوي منها تأتي بتوجيه أو إقرار العقيد القذافي، إذ اعتاد أن يستهل دورة الانعقاد الاعتيادية للمؤتمرات بخطاب توجيهي عادة ما تصبح فقراته مادة للحوار، بل وتوجيهات يستدل بها في جولات النقاش. نذكر هنا أن قانون الشرعية الثورية الذي أقرته المؤتمرات الشعبية عام 1993 يجعل من مداخلات العقيد القذافي توجيهات واجبة التنفيذ وملزمة إلزام القوانين النافذة، وهو قانون جاء ليقنن واقعا لم يتبدل خلال السنوات التي سبقت إقراره. ثم إن إعلان سيف الإسلام مؤخرا أن والده "خط أحمر" لا يمكن تجاوزه عند وضع دستور للبلاد إنما يؤكد محورية دور العقيد القذافي في توجيه الأحداث، وإمساكه بكل خيوط التأثير في السياسة الداخلية والخارجية. ونفوذ قبيلة القذاذفة بشكل عام وأسرة العقيد القذافي بشكل خاص قوي في الواقع السياسي وفي التأثير على المنظومة الرسمية (مؤتمر الشعب العام واللجنة الشعبية)، فأمين مؤتمر الشعب العام قذافي ونائبه قذافي، والثاني من أبرز القيادات وأكثرها حضورا على الساحة السياسية والثقافية. سيف الإسلام يمثل اليوم عصب مشروع التحول السياسي والاقتصادي الجديد وهو الوجه الذي يمكن أن يدير الجانب المدني في السياسات، ويظهر اليوم بشكل جلي نفوذه في صياغة التوجهات على المستويين الداخلي والخارجي. ابن العقيد الرابع في الترتيب، العقيد المعتصم، عين مؤخرا مستشارا لمجلس الأمن القومي، الجهاز الذي أسس حديثا ويراد له أن يكون مركز التحكم الأمني في البلد، ويبدو أن المعتصم سيكون من أبرز قيادات المؤسسة الأمنية بما في ذلك القوات المسلحة، كما يتولى ضباط من أبناء عمومة العقيد القذافي مسؤولية أهم التشكيلات العسكرية. الابن الأكبر محمد يشرف على إدارة قطاع الاتصالات بمختلف شركاته، ونشاط مؤسسة "واعتصموا" التي تقودها عائشة القذافي يتسع تدريجيا على المستوى الاجتماعي. أما الساعدي القذافي فقد أوكل إليه الإشراف على إدارة أكبر مشروع سياحي وخدمي شمال غرب البلاد، بالإضافة إلى مسؤولياته المتعلقة بقطاع الشباب والرياضة. الهياكل الداخلية للنظام قبل الشروع في العمل بالنظام الجماهيري تأسست اللجان الثورية، وهي تضم مجموعات من الشباب الذين يدينون بالولاء الكامل للعقيد القذافي وأفكاره ومواقفه، وهم شباب لا يعوزهم الحماس غير المبصر في كثير من الأحيان، وقد أظهروا استعدادا لفعل ما يطلبه تعزيز التجربة الثورية وحماية الثورة مهما بلغت كلفته. دور اللجان الثورية وفق النظرية العالمية الثالثة لا يتعدى "التحريض على ممارسة السلطة" إلا أنها ولفترة عقدين من الزمن ظلت هي القوة الأكبر تأثيرا على القرار وتوجيه دفة الأحداث المتعلقة بالسياسة الليبية الداخلية والخارجية، وأسندت إلى أفرادها الإدارة التنفيذية لمعظم الأجهزة والمؤسسات الحيوية في مختلف القطاعات الأمنية والمدنية. كما تبنت اللجان الثورية الإشراف على النشاط السياسي في الخارج الذي تركز خلال عقدي الثمانينات ومطلع التسعينات حول مقاومة "المشروع الإمبريالي الأميركي الصهيوني" والتصدي ل "القوى الرجعية" من الليبيين المنتمين إلى فصائل المعارضة في الخارج. تراجع حضور اللجان الثورية كتيار كاسح ومهيمن على الأحداث مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي لم يمنع من أن يظل تأثير أهم رموزها بارزا على مستوى السلطة العليا الهيمنة على قطاع الإعلام والثقافة وبعض المؤسسات الحيوية. وبالرغم من الضغوط على القيادة السياسية من الداخل والخارج لإنهاء دور اللجان الثورية، فإن القيادة الليبية ترى في ذلك تقويضا للنظام الليبي من جهة ارتباط استقرار أمن النظام بالرموز الثورية، ومن جهة ثانية فإن هذه القيادات هي التي تحافظ على بقاء تجربة الحكم، سلطة الشعب، القضية التي لا يقبل العقيد القذافي التخلي عنها بأي ثمن. وفشل اللجان الثورية كوسيلة للتعبئة الشعبية للمشروع السياسي حدا بالنظام الليبي إلى ابتداع تكوينات جديدة لصيقة بالتكوين الاجتماعي، وتنتشر في مختلف الشرائح المجتمعية، فأنشأت القيادة الشعبية الاجتماعية التي تضم زعماء ينتسبون إلى القبائل الليبية، والأكاديميين والرموز الاجتماعية الأخرى، تضمها قيادة مركزية لها فروع تتوزع على مختلف المناطق بشكل شبه موازي للهيكل السياسي الرسمي (المؤتمرات الشعبية). يضاف إلى القيادات الاجتماعية الروابط الشبابية لمواليد الفاتح من سبتمبر وما بعده، ويتقاطع تشكيل هذه الروابط بالتكوين القبلي بحيث أصبح لكل قبيلة رابطة شبابية تنتسب إليها. ولا ينسب إلى هذه التكوينات الاجتماعية مهام تتعلق بإدارة مؤسسات الدولة أو توجيه العملية السياسية بشكل مباشر، وبالرغم من محاولة دمج القيادات الاجتماعية في المنظومة السياسية -وهناك تصورات لإعطائها دورا رياديا في العملية السياسية في ظل ترتيب العلاقة بين المؤسسات المختلفة- إلا أن دورها على المستوى السياسي اقتصر على التشريفات. أما على الساحة الاجتماعية فدورها يتركز في التعبئة والتوجيه داخل المجتمع ومواجهة "الأفكار الهدامة" ومنع الأفراد من الانخراط في أي تشكيلات تتناقض وتوجهات النظام السياسي. القوى والتيارات السياسية المعارضة القوى السياسية خارج دائرة السلطة لا يظهر لها وجود منظم داخل البلاد نظرا للقيود التي تفرضها الدولة على مختلف التشكيلات الجماعية، إذ إن قانون تجريم الحزبية يحكم بعقوبات قاسية جدا على من يدعون إلى تشكيل التنظيمات التي لا يسمح النظام الجماهيري بنشاطها. غير أن دور النخب في الداخل قد تحسن بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الماضية، مستفيدة من الهامش الذي سمحت به تغيرات ناجمة عن تطورات محلية وإقليمية ودولية استجابت لها السلطة، ولم تقاوم نتائجها التي كان من ضمنها ازدياد دور النخب في نقد الواقع والدعوة إلى تصحيح الأوضاع، إلى الدرجة التي أصبح الحديث فيها عن تيار إصلاحي داخل البلد شيئا مألوفا. أما بالنسبة للشرائح الثانية كالطلاب والموظفين والمهنيين إلخ، فلا تجمعها أية تشكيلات خارج نطاق السلطة، إذ يهيمن التيار الثوري على الاتحادات والنقابات والروابط المختلفة، ولا تسهم هذه التشكيلات في تعزيز دور المنتسبين إليها في الدفاع عن مصالحهم. أما بالنسبة للتيار الإسلامي فلا يوجد له تأثير ظاهر في مجريات الأحداث، ويعتبر العديد من المراقبين أن النظام استطاع حسم التدافع بينه وبين مختلف التيارات الإسلامية لصالح فرض قبضته على الأوضاع. الأثر الخطير الناجم عن اتباع الإجراءات القمعية التي أدت إلى تحجيم حضور العلماء والدعاة والمربين، ومساهمتهم في توجيه حالة التدين المتوسعة ظهر في انتشار الأفكار الراديكالية العنفية التي يمكن أن تتطور لتشكل أحد أبرز أسباب انزلاق البلد إلى حالة من الفوضى. وباختصار فإنه من المبكر القول إن هناك معارضة داخلية تلعب دورا في إيجاد حالة من التوازن النسبي في العملية السياسية، إلا أن إخفاق النظام في الانخراط في مشروع إصلاحي شامل وعجزه في معالجة الاختناقات الراهنة، قد يفضي إلى تعزيز أداء التيار الإصلاحي وتعظيم مشاركته في الحياة السياسية. ويجدر القول بأن المعارضة في المنفى ليست أحسن حالا من ناحية القدرة على التأثير على السياسة الليبية، وإن سمحت الحريات في الخارج بتمايز تكويناتها وتعدد مواقفها. وتضم المعارضة في الخارج عدة تنظيمات سياسية تنتمي إلى التيار الليبرالي الديمقراطي أو الإسلامي. اجتمعت تنظيمات التيار الليبرالي الديمقراطي مع فصيل إسلامي تحت مظلة "مؤتمر المعارضة الوطنية" وهيئة المتابعة المنبثقة عنه، وتطالب هذه التنظيمات بتنحي العقيد القذافي ونظامه وتدعو إلى العودة إلى الشرعية الدستورية. أما التيار الإسلامي المنظم الذي يمثل الإخوان المسلمين ومعهم مؤسسو "منتدى التنمية السياسية والبشرية" فيشكلون التيار المتبني لمشروع إصلاحي يركز على تغيير الأوضاع باتجاه إيجاد دولة القانون واستقلال القضاء وإطلاق الحريات السياسية وتعزيز دور المجتمع المدني في الحياة العامة دون ربط ذلك بتغيير في النظام الحاكم. وبالإضافة إلى هؤلاء هناك عدد كبير من الأفراد لا ينتسبون حركيا لهذه التنظيمات، إلا أنهم يتبنون نفس المواقف، وقد شارك الكثير منهم في مؤتمر المعارضة الوطني عام 2005، وناصر البعض الآخر الطرح الإصلاحي في كتاباتهم ومشاركتهم عبر وسائل التعبير المتاحة في الخارج. المراقب لأوضاع المعارضة بمختلف تصنيفاتها يلحظ أنها تعاني مأزقا، فالمطالبون بتنحي النظام لا يملكون أي أداة عملية لتحقيق مطلبهم، ورفضهم للإصلاح يحصرهم بعيدا عن التعاطي مع أية تطورات سياسية في الداخل. أما التيار الإصلاحي فيتأثر مشروعه بشكل كبير بمدى الانفراج الحادث في الداخل ومدى التزام النظام بتحقيق الإصلاحات السياسية ليتسنى له تفعيل طروحاته. ونظرا لتذبذب الموقف الرسمي من الإصلاح والاتجاه إلى التركيز على التحديث الاقتصادي، وتجاهل الإصلاح السياسي فلا خيار أمام إصلاحيي الخارج إلا الانزواء في الظل أو العودة للعمل المعارض بوجه مختلف.