عاد التلاميذ إلى مقاعد الدراسة بعد انتهاء الإضراب، وتنفّس أولياء الأمور الصّعداء، لكنّ أيديهم ستظل على قلوبهم؛ فالتجارب السابقة علّمتهم أن كثيرا من الاتفاقيات تحمل في طيّاتها بذور إضرابات أخرى كونها أشبه باستراحة المحارب سواء تعلّق الأمر بالنقابات المستقلة أو وزارة التربية الوطنية ومن خلفها الحكومة والمؤسسات الرسمية المعنية. إنها مأساة حقيقية حين تظهر الصورة أقرب إلى لعبة كرّ وفرّ مدروسة.. إضراب أو سلسلة إضرابات، ثم مفاوضات وشدّ وجذب، وفي النهاية تتداول وسائل الإعلام اتفاقا هزيلا توافق عليه هذه الجهة على مضض باعتباره أفضل ما أمكن الحصول عليه في ظل موازين القوة، وترفضه جهة أخرى لتترك الباب مفتوحا على مصراعيه نحو مزيد من حالة عدم الاستقرار. نعم إن عدم الاستقرار هو سيّد الموقف، وقد لا يبالغ الذين يؤكدون أنّ الخمسة عشر سنة الماضية لم تشهد أي قدر من الاستقرار الحقيقي في الوسط التربوي سواء تعلق الأمر بالإدارة أو المعلم أو التلميذ، والنتيجة بعد ذلك هي جيل مذبذب تربويا وتعليميا ستكون له بصماته السلبية على مستقبل البلاد، والمفارقة أن الاستقرار الوحيد في القطاع التربوي، الحسّاس، هو في قمة هرم (السلطة التربوية) حيث المقعد الذي يجلس عليه السيد الوزير. إننا على أبواب اليوبيل الذهبي لانبعاث فجر الاستقلال، وإنه نصف قرن من الزمان، ولا بد أننا أخذنا وقتنا، أو أخذوا، وشبعنا من مختلف أنواع المشاريع والبرامج والمناهج والمنظومات، وتذوّقنا جميع ألوان السقوط والنهوض والعلوّ والانخفاض، وبعدها ينبغي أن نقول للفوضى والارتجالية: وداعا إلى الأبد، فقد صرنا أمة تعرف قدر نفسها وتحسن صناعة مستقبلها عبر هيكل تعليمي محكم تضعه في خدمة أبنائها. مفكر وسياسي مغاربي كان يتحدث في مقال له عن التغيير المنشود في الدول العربية.. استعرض تجارب القوميين واليساريين والإسلاميين والليبراليين، وعرّج على نجاحات القوى الفتيّة مثل تركيا وماليزيا ثم قال: (إنّ سرّ نجاح الأمم الصاعدة هو جعلها التربية أولوية الأولويات. لذلك يجب أن ندفع الدولة الديمقراطية، التي سنشارك في صنعها، أن تكون أولوية أولوياتها التعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم، كما يجب أن نتميّز بتشجيع كل القيم والمؤسسات التي تعيد للعلم والعمل مكانتهما المركزية في المجتمع). نعم لا بد أن يكون التعليم هو الأولوية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، لأن هذا القطاع الحيوي هو بوابّة التغيير الفعلية لمن يتحدثون ليلا ونهارا عن النهضة والمستقبل المشرق للجزائر.. نعم إذا كانوا جادّين فلا سبيل لهم غير وسيلة العلم والتربية حيث تتخطى كلّ شيء وتقفز إلى أعلى هرم الاهتمامات بعد التحقّق من أنها في عهدة كفاءات وطنية تجمع بين طهارة اليد وقوة الفكر والتكوين ووضوح الرؤية والرسالة. نتفاءل خيرا بأن يكون صنّاع القرار في بلادنا، خاصة في أجواء الإصلاحات، قد شرعوا في بذل المطلوب لإعادة الأمور إلى نصابها ومحاسبة المسؤولين على حالة عدم الاستقرار شبه المزمنة التي يعاني منها قطاع التربية والتعليم، ومع ذلك لابد للطرف الآخر أن يتحمل مسؤولياته الكاملة ويدرك حجم وخطورة رسالته التعليمية التربوية ولا ينتظر أن يصل حجم الراتب ومستوى الخدمات إلى ما عند اليابانيين مثلا، ليقوم هو بدوره كاملا غير منقوص. إن التعليم مسؤولية وأمانة ورسالة سامية، وعلى من يقترب من ساحته، مجرّد اقتراب، أن يدرك هذه المعاني جيدا ويتسلّح بيقظة دائمة تعصمه من الغفلة والفتور وتدفعه دائما إلى تقديم كل طاقته لبناء الجيل الجديد، وهو لا ينتظر في كلّ ذلك جزاءً ولا شكورا من أحد. في ثقافتنا الإسلامية كلام نفيس حول الإمامة والأذان يمكن الاستئناس به في مجال التربية والتعليم أيضا، وملخّصه أن شؤون المسجد والأذان والصلاة بالناس هي حُسبة للّه لا ينبغي أخذ الأجرة عليها، لكنّ أهل العلم أجازوا ذلك على اعتبار (حبس الوقت)، لأن القائم بشؤون المسجد والصلاة يُحبس عن السعي لطلب لقمة العيش في الزراعة أو التجارة وهكذا لا بد أن يُجرى عليه رزق يسدّ حاجته. ومن رأي الفقهاء وحكمتهم يمكن التساؤل أيضا، في مجال التعليم والتربية، عن ذلك الأجر الذي يُقدّم للمعلم وهل يمكن أن يكون تعويضا حقيقيا مقابل الجهد الذي يبذله داخل الفصل الدراسي وخارجه.. كلاّ وألف كلاّ.. لأن الجهد الذي يقوم به المعلم عظيما فهو يصنع من خامات بشرية رجالا للمستقبل. إن مشاكل التعليم كثيرة لكنها في كفّة والتلميذ في كفة أخرى، خاصة إذا دخل المعلم الفصل وأغلق الباب.. ينبغي هناك أن يترك كل المشاكل وراء ظهره ويقدّم ما في وسعه مع تفاؤل وسماحة وبسمة، لأنها ستنعكس على جيل المستقبل. في استبيان سئل عشرات المدربين عن أهم صفات المدرب أو المعلم الفعال، فذكروا صفات كثيرة بينها العشرين التالية: التفرغ، الحماس، الأمانة، مهارات الاتصال، اللطف والأدب، الإبداع، الاستماع، القدرة على الإقناع، حسن المظهر، الاهتمام بالآخرين، الحيوية، الاستعداد، النظام، مراعاة الأفراد، القدرة على التقييم، المرونة، الحكمة، التنويع، الصبر، حساسية المشاعر.. فأين المعلم والأستاذ في بلادنا من هذه الصفات؟ وهل تعاون الجميع لتوفير البيئة والأجواء المناسبة ليجتهد رجل التربية في تمثّل تلك الصفات وغيرها. لا بد من التأكيد مرة أخرى على دور المعلم وأهمية إصراره على رسالته رغم كل العقبات والمنغّصات، وفي المقابل: على صناع القرار أن يبحثوا بإخلاص عن تلك الأطراف التي تدفع المعلم (بإخلاص) إلى مستويات معيشية متدنية تجعله صالحا لأي شيء ما عدا التعليم.. ابحثوا عن أعداء المعلّم فهناك يكمن السرّ.