عندما كنا صغارا كان أهالينا يخيفوننا ب»الغول«، وكبرنا وفي مخيالنا الجماعي وحش كبير يحول بيننا وبين ممارسة »حريتنا« إلى درجة العقدة، وكهلنا وشخنا وأنظمتنا الحاكمة تخيفنا ب »البعبع«، وهي المعارضة، مهما كان شكلها ولونها، ومأكلها ومشربها. ومن الواضح أن أهالينا كانوا يخافون علينا من الوقوع في الشرور والمحرمات فنجني على أنفسنا ونجني عليهم، لكن الأنظمة الحاكمة كانت ولا زالت وستبقى تخاف على نظامها من أن تزلزله المعارضة. - بعبع الإمبريالية والبعبع الأحمر في مطلع الإستقلالات الوطنية في الدول العربية في حقبة الستينيات تحديدا، تشكلت الأنظمة السياسية على وقع أنغام الدولة الوطنية، في تلك الحقبة كان النظام العالمي منقسما إلى قسمين: اشتراكي بقيادة الإتحاد السوفياتي )روسيا حاليا(، ورأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكانت بين القطبين حرب باردة قاسية. حينها انقسمت الدول العربية إلى قسمين، قسم موالي للغرب الرأسمالي، وآخر موالي للشرق الاشتراكي، كان هذا الانقسام بائنا رغم محاولات الدول النامية تشكيل قطب لا ينتمي لهذا ولا لذاك أطلق عله اسم »دول عدم الانحياز«، لكن من الناحية العملية، كانت هذه الدول تتكلم غير منحازة وتتعامل منحازة إلى درجة التحالف الإستراتيجي. حينذاك كان الإتحاد السوفياتي ونظامه الاشتراكي هو »البعبع« بالنسبة للغرب الرأسمالي، حيث كان الغرب يخيف شعوبه من »الخطر الأحمر« الذي يرمز للإتحاد السوفياتي، ويخيف منه أيضا دول عدم الانحياز ويستهدفها بدعايته، التي كان يخصص لها قنوات إذاعية موجهة كثيرة لمحاربة الكتلة الاشتراكية إعلاميا، وقد لعبت إذاعتان مشهورتان تاريخيا دورا بارزا في هذا السياق هما »صوت أمريكا«، وإذاعة ال»بي بي سي« البريطانية، إلى جانب قنوات أخرى عديدة. من جانبه كان الإتحاد السوفياتي يخيف شعوبه من »إمبريالية« النظام الرأسمالي، ويعتبرها ضد مصالح العمال، وكذلك كان يوجه تخويفه إلى دول عدم الانحياز أيضا، وكان يخصص مبالغ مالية للدعاية الإعلامية مثل وكالة نوفوستي. وكذلك فعلت الدول العربية، بعضها تخيف شعوبها من النظام الإمبريالي الذي تمثلها أمريكا كما كنا نحن في الجزائر، وبعضها تخيف شعوبها من بعبع النظام الاشتراكي الذي صور على أنه معادي للإسلام. وبالنتيجة أصبح الليبراليون العرب هم البعبع بالنسبة للأنظمة العربية الحاكمة الموالية للنظام الاشتراكي، في حين أصبح التيار اليساري أو الشيوعيين هم البعبع بالنسبة للأنظمة الحاكمة الموالية للغرب الرأسمالي، كما كان في الوقت ذاته القوميون العرب والإسلاميون بمثابة بعبع في النظامين تبعا لمصلحة النظام. ولهذا امتلأت السجون العربية بالمعارضين أي ب »البعبع« سواء كانوا قوميين أو ليبراليين أو يساريين أو إسلاميين، سجنهم الدكتاتور الحاكم الذي صورهم جميعا خطرا على الشعب والدولة وعلى الأمة والمجتمع وعلى القيم والأفكار، وعلى الدين والعادات والتقاليد. *- البعبع الإسلامي الأخضر ومع مرور الزمن انتهت القطبية الثنائية ذات نوفمبر من عام 1989 عندما سقط جدار برلين معلنا الوحدة بين ألمانيا الاشتراكية وألمانيا الديمقراطية، وتفك الإتحاد السوفياتي القلب النابض للاشتراكية، وأذن المؤذن في العالم أجمع عن »نهاية التاريخ« تاريخ الصراع بين القطبين، ليفسح المجال لهيمنة الغرب الرأسمالي الذي ولد أفكارا جديدة وتطبيقات سياسية واقتصادية جديدة : إنها العولمة والديمقراطية والليبرالية، حينها أصبحت ظاهرة الديمقراطية موضة عالمية حيث تم تبنيها من قبل كل البلدان التي كانت في وقت سابق معادية لها ومؤيدة لنظام الحكم الفردي بما فيها روسيا. فتم حينها فتح المجال السياسي وميلاد أحزاب معارضة وبروز الصحف الخاصة، وانفجر الرأي المعارض، وتم تنظيم انتخابات تعددية في عقد التسعينيات في عديد من بلدان العالم منها البلدان العربية كالجزائروتونس على سبيل المثال. في تلك الفترة، وتماشيا مع التحولات الإستراتيجية التي شهدها العالم، كان يجب على الولاياتالمتحدة بصفة خاصة والغرب الرأسمالي الليبرالي بصفة عامة أن تجد عدوا جديدا يحل محل الإتحاد السوفياتي لتخيف به شعوبها، وبذلك أصبح الإسلام كدين بمثابة »الخطر الأخضر« الذي يهدد مصالح الغرب. وكان سهلا بالنسبة لأمريكا إقناع شعبها وشعوب أوروبا الغربية حينذاك بهذه الدعاية: »الخطر الإسلامي« أو »الخطر الأخضر« بسبب مشاركة العديد من الإسلاميين في تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي حينها. ولأن المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب كما قال العلامة العربي عبد الرحمان ابن خلدون، فقد أصبح الإسلاميون منذ مطلع التسعينيات هم »البعبع« رقم واحد في البلدان العربية، خاصة بعدما اتضح أن كل انتخابات يتم تنظيمها تنتهي لصالح الإسلاميين، حدث ذلك في الجزائر مرتين متتاليتين بشكل واضح تماما وبشكل رسمي أيضا الأولى عام 1990 في الانتخابات المحلية، والثانية عام 1991 في الانتخابات التشريعية، واتضح ذلك في تونس أيضا عندما فازت حركة النهضة بالمجالس المحلية في عهد زين العابدين بن علي، واتضح ذلك في مصر والأردن والمغرب وفلسطين وغيرها من البلدان التي تعودت تنظيم انتخابات. *- الدكتاتور ليس بعبعا حينها نفس النظام السياسي العربي الحاكم منذ الإستقلالات الوطنية، وتماشيا مع موضة الغرب الذي أنتج الخطر الأخضر، حوّل بعبعه من القوميين والليبراليين واليساريين نحو الإسلاميين، ليصبحوا بمثابة »البعبع« الذي يهدد النظام والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة وما شابه ذلك، وتجند الجميع ضد الخطر الإسلامي تحت تأثير الهجمة الإعلامية الدعائية من جهة، وتحت تأثير السلوك السياسي غير الناضج للإسلاميين من جهة أخرى. بذلك أصبحت كلمة »القاعدة« و»السلفيين« و»الإخوان« و»الإسلاميين« بمثابة البعبع، حتى أن القذافي لما تزعزع عرشه راح يطلق تصريحات يهدد فيها الغرب بسيطرة القاعدة على ليبيا في حال سقوط نظامه، وكأن الجدلية هي إما أن تبقى الأنظمة الحاكمة في مكانها وتحظى بتأييد العالم، وإما يصل الإسلاميون إلى الحكم. لكن »الدكتاتور العربي« بقي في مكانه لم يتزعزع، ينتج »البعابع« ويجند الجميع لمحاربتها، لكنه رغم فشله في التنمية والتسيير فقد ظل جاثما على الشعوب والبلدان. هذا الفشل في التنمية أنجب »الربيع العربي« مطلع 2011 بثورات مختلفة الأشكال بعضها سلمي مثلما حدث في تونس ومصر، وبعضها عنيف مثلما حدث في ليبيا وسوريا والبحرين وما تشهده اليمن أيضا. هذه الثورات العربية فاجأت الحاكم والشعوب، وتكون قد فاجأت الغرب أيضا، وفي خضمها غير الغرب بعبعه، حيث لم يعد الإسلاميون المعتدلون يشكلون تهديدا حيويا لمصالحه، بل الأنظمة القائمة منذ نصف قرن أو أكثر، لذلك شارك الغرب بعدته العسكرية وآلته الإعلامية والسياسية والدبلوماسية في إنهاء تلك الأنظمة، وهكذا تمكنت حركة النهضة من الفوز بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي في تونس وهي حاليا ترأس الحكومة، وفازت حركة العدل والحرية في المغرب وهي حاليا ترأس الحكومة، وفاز الإخوان والسلفيون في مصر وستكون لهم كلمة في مستقبل مصر السياسي. لقد سقطت أسطورة »البعبع« فالناس لم تعد تخاف من الإسلاميين ولا الليبراليين ولا اليساريين، لأن الأنظمة التي حكمت لأزيد من نصف قرن خيبت آمال الشعوب.. الشعوب اليوم تريد الديمقراطية الحقة حتى لو أخرجت »البعابيع« من الصناديق، لقد جربت الشعوب العربية الأنظمة السياسية للدولة الوطنية، وهي تريد اليوم أن تعطي الفرصة لمن لم يحكموا بعد، تريد أن تجرب وترى.. إن الدكتاتورية سيئة بكل تأكيد، والحكم اللاهوتي سيئ بكل تأكيد، والحكم الليبرالي المتوحش سيء قطعا، والاشتراكية التي تقمع حرية الفرد سيئة جزما، والملكية التي تملك الشعوب والأوطان لا تطاق بكل تأكيد.. لماذا؟ لأنه لا يوجد نظام نموذجي ومثالي للحكم.. لكن هناك إجماع على أن الديمقراطية هي »أحسن نموذج سيء للحكم«.. دع الناس يجربون ربما تولد الديمقراطية مسؤولين »أقل دكتاتورية« من الدكتاتور المتربع على العرش..ربما من يدري؟ ألم يقل برناردشو: »إن الإصطياد في المياه العكرة أفضل من الجلوس على الشاطئ«. لندع الناس تصطاد ربما يأتي في شباكها حاكم رشيد.