تختلف القراءة التي يقدّمها رئيس جبهة العدالة والتنمية، عبد الله جاب الله، عن الطرح السائد لدى عموم المنتسبين إلى التيار الإسلامي لكونه يؤمن هو الآخر بأنه سيكون لحزبه النصيب الأوفر من أصوات الناخبين في التشريعيات المقبلة، ويؤسّس هذه القناعة بتأكيده أن »المشروع الإسلامي« هو البديل الذي يبحث عنه الجزائريون، لكن هاجسه الأكبر يبقى التزوير. وموازاة من تحذيره من مخاطر التلاعب بأصوات الناخبين فإن جاب الله يعود في هذا الحديث الذي خصّ به »صوت الأحرار« إلى الكثير من المواضيع والملفات وعلى رأسها الصراع القائم حول زعامة التيار الإسلامي في الجزائر. * لماذا حزب جبهة العدالة والتنمية؟ ** هذا السؤال أنا أستغربه، هل نحن دخلاء على الساحة السياسية؟ فالحقيقة أننا من صناع الساحة السياسية ونضالنا، ولله الفضل والمنة، بدأ منذ أربعة عقود من الزمن، فنحن أقدم حزب بعد جبهة القوى الاشتراكية، وبالطبع فإن جبهة التحرير الوطني موضوع لا يُطرح. وحزبنا أخذ عناوين شتى وآخرها العنوان الذي ننشط به اليوم وهو جبهة العدالة والتنمية، ولذلك فإن الجبهة امتداد طبيعي لنضالاتنا السابقة وقد جاءت من أجل خدمة الدين والشعب عبر خيار التغيير السلمي، الرسمي والعلني، وعبر منهج الممارسة السياسية الذي يقوم على التسامح والتراحم والتغافر والتواد والتعاون على البرّ والتقوى، ويعتبر السياسة مصالح يحميها ويقوم الحق عليها. والدارس الفقيه لدلالات هذه الألفاظ يُدرك أن منهج جبهة العدالة والتنمية يتميز في الممارسة السياسية عن المناهج المتبناة من سائر القوى الأخرى بغض النظر عن برامجها ومشاريعها وتوجهاتها. * هناك من تعامل بحذر مع تأسيس حزبكم بالتسمية الجديدة إلى درجة اعتبروها محاولة من شخصكم استيراد الأنموذج التركي. ** أنا لست من دعاة قولبة الأشياء، فكلما طرح شيء بحثوا له عن قالب يضعونه فيه ثم يتعرفون عليه من خلال ذلك القالب، وأنا أرى في هذا الأمر تفاهة في التفكير وضحالة في الفكر. * أثيرت الكثير من التساؤلات في الخارج حول »الاستثنائية الجزائرية« قياسا بما حصل في بعض البلدان العربية، وذهبت قراءات إلى حدّ الجزم بأن هذا الاستثناء سيتكرّر بعدم فوز الإسلاميين في الانتخابات المقبلة. ما تعليقكم على ذلك؟ ** فليقولوا ما شاؤوا لأن الكلام ب »بلاش« كما يقال خاصة إذا لم يستصحب الإنسان مسؤولية شرعية وسياسية واجتماعية، أما الذي يستصحب هذه المسؤولية يعي أن التيار الإسلامي فاز بالانتخابات منذ أن كانت هذه الانتخابات تعدّدية. لأول مرة كانوا صرحاء وموضوعيين وأعلنوا عن النتائج ولم يزوّروا، لكن بعد ذلك لجؤوا إلى التزوير وأضحى هذا التزوير سياسة متبعة من طرف النظام الحاكم، وأضحت لديهم تقاليد في ذلك بعضها معلوم وبعضها غير معلوم، ولذلك دائما كانوا يعلنون عن نتائج مزوّرة، لكن الحقيقة يعرفونها، والنظام في حدّ ذاته يعرف هذه الحقيقة، والفاعلون الحقيقيون في البلاد كذلك يعرفون هذه الحقيقة بأن القوة السياسية في البلاد صاحبة المصداقية والحضور الشعبي الحقيقيين إنما هي مصداقية التيار الإسلامي. فإذا كنا قد فزنا من قبل في الاستحقاقات المختلفة والظروف غير الظروف والأوضاع غير الأوضاع الحالية سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي أو حتى على المستوى الوطني فلماذا لا نفوز اليوم، المهم عندنا أن تكون الانتخابات فعلا حرة ونزيهة. على العموم نحن قرّرنا الدخول في الانتخابات وفي نيتنا الفوز بها خاصة إذا وفّت السلطة بتعهّداتها في الانتخابات القادمة بأن تكون انتخابات حرّة ونزيهة. نحن متفائلون ويبقى هاجسنا الوحيد فقط هو التزوير ليس إلاّ. * هل تعتقدون بأن الضمانات الممنوحة من طرف السلطة كفيلة بأن تشهد البلاد بفضلها انتخابات غير مسبوقة من حيث احترام ما سيقرّره الشعب مثلما حصل في 1991؟ ** الخطاب الرسمي في عمومه مطمئن على أن يُترجم إلى واقع ملموس، وإذا استصحبنا الممارسات السابقة وما نعرفه أيضا من تقاليد تعامل هذا النظام يقوى تخوّفنا، لأن هذا النظام دأب على أن يكون عنده خطابان: خطاب رسمي يُسوّقه عبر وسائل الإعلام وهو عبارة عن رسائل موجهة للخارج وبعده للداخل، ثم ممارسات عملية ميدانية يُسوّقها عن طريق القرارات التي تتم تحت الطاولة كما يقال، وقد شاركت في عدة استحقاقات أذكر على سبيل المثال انتخابات 1997 حيث كنا نخشى التزوير وتحدّثنا مطوّلا يومها مع الرئيس اليامين زروال حول هذا الموضوع، والرجل التزم وتعهد بالإشراف بنفسه على ضمان نزاهة هذه الانتخابات وتوافقنا حينها على أن يُصدر تعليمة رئاسية دقيقة وعميقة، واضحة وشديدة في نفس الوقت، تُوجّه لجميع الجهات المسؤولة على الإشراف على العملية الانتخابية بما في ذلك عملية الفرز، وقد فعل الرجل ذلك وتمّ نشر التعليمة وأخذنا نسخة منه وسلّمناها لكل مراقبينا في صناديق الاقتراع بعدد المكاتب واللجان المختلفة، لكن هل أغنت تلك الوعود شيئا؟ الجواب هو أن الكل يعلم بأن التزوير في ذلك الوقت لم يكن محدودا ولا شاملا بل إنه كان بمثابة تغيير للنتائج وقد حصل مثلُ ذلك في الاستحقاق الماضي. المسألة الهامة هي أنه هل وجدت النظام الجزائري في أي استحقاق من الاستحقاقات التي مرّت بها البلاد لم يعد فيها الشعب الجزائري بأن تكون الانتخابات نزيهة؟ هو دائما يعدُ بذلك ولكن عندما يأتي التنفيذ والواقع تكون النتائج صادمة للإرادة الوطنية لأنها دائما تكون بعيدة كل البُعد عن حقيقة أصوات المواطنين. يبقى السؤال: هل سيتكرّر هذا السيناريو الذي تكرّر في الاستحقاقات السابقة خلال الانتخابات القادمة؟ هذا الذي لا نرجوه، ونحن نتمنى أن السلطة ممثلة في رئيس الجمهورية وأعوانه ثم في وزير الداخلية أن يترجموا هذه الوعود إلى حقائق ملموسة يراها الناس بأعينهم ويلمسونها بأيديهم صبيحة الحادي عشر من شهر مايو المقبل إن شاء الله. * هناك من اعتبر انسحاب حركة مجتمع السلم من التحالف الرئاسي وبعده قرار جبهة القوى الاشتراكية المشاركة في التشريعيات بمثابة مؤشرين إيجابيين على انفتاح الساحة السياسية. هل أنتم مع هذه القراءة؟ ** بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال أقول أنا ما رأيت ذلك انسحابا وإنما رأيته مناورة تكتيكية ليس إلاّ والدليل على ذلك هو بقاؤها في الحكومة، ولا أزيد فوق هذا. أما بالنسبة لمشاركة جبهة القوى الاشتراكية لا شك أن ذلك موقف إيجابي وقرار سليم وحكيم ومفيد أيضا، ونرجو أن يكون لهذا الحزب دورا جيدا لأن من شأن ذلك المساهمة في التعبئة من جهة، إضافة إلى المساهمة في مراقبة الاقتراع. * لكن يبدو من خلال سلسلة الإصلاحات التي تمّ إطلاقها والخطابات الرسمية بأن الأمر يختلف يوم 10 ماي المقبل. بهذا المفهوم إلى أي مدى يُمكن التسليم بأن السلطة استوعبت دروس الماضي خصوصا في ظل الظروف الإقليمية والدولية التي لا تسمح بمزيد من الأخطاء؟ ** بالتأكيد، نحن لا نتمنى أن يحصل مثل هذا لأن الانتخابات القادمة الكلّ يراقبها، فالشعب ينظر إليها ويراقبها، والقوى المختلفة في هذا المجتمع تنظر إليها وتراقبها، والمجتمع الدولي أيضا ينظر إليها ويراقبها، والكلّ ينتظر أن يحدث في الجزائر تحوّل حقيقي في إطار التعدّدية الديمقراطية السليمة، وأن تكون الانتخابات المقبلة بمثابة البداية الصحيحة في مسار حكم وممارسة جديدة تقوم على احترام الحقوق والحريات وعلى احترام تداول الأحزاب على السلطة عن طريق انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة. ولذلك فأيّ مساس بنتائج الانتخابات سوف يُسقط النظام سقوطا حرّا في من نظر الخارج ومن نظر الفاعلين في الداخل وقد يضع هذا الأمر الجزائر، لا سمح الله، في منعرج خطير لا نتمناه لبلادنا. البعض يمنّي نفسه بأن ما حصل في الجزائر، وقد ذاقت مرارات الفتنة خلال تسعينيات القرن الماضي ولا تزال أثارها أو بعض تداعياتها مستمرة إلى اليوم، لا يمكن أن يحصل ويعود مرة ثانية لكي لا يذوق نفس المرارة، وبالتالي فإن هذا الوضع نحن لا نتمناه أن يعود ولكننا نُحمّل من يتسبّب في ذلك كامل المسؤولية الشرعية والتاريخية. إذن أجدّد التأكيد مرة أخرى بأن هذا الأمر نحن لا نتمناه ونتألّم لمجرّد أن يخطر في بالنا ولكنني أدعو إلى الاتعاظ من التجارب السابقة وأيضا بمحاسبة أنفسنا لأنه من أهم العوامل التي أطاحت بنظام الحكم في مصر هو تزوير الانتخابات البرلمانية، ثم إن ما يتوجب علينا إدراكه هو أن الظرف الذي نعيشه هو غير الظرف والكل الآن متيقظ ومتابع ومهتم ومتتبع، والكل يرقب 10 ماي، سواء كان هذا الكل من الداخل أو من الخارج، فالمسؤولية ثقيلة ولها آثار بالغة الخطورة والأهمية، وتقع هذه المسؤولية على رئيس الجمهورية وأعوانه وعلى وزارة الداخلية في وضع الجزائر على الطريق الصحيح لبناء ديمقراطية عدل سليمة وبناء شرعية حقيقية وتوفير شروط التنمية والاستقرار الحقيقي. * مقابل ذلك رئيس الجمهورية لم يفوّت أية فرصة تتاح له إلا وذكّر الجزائريين بأهمية التشريعيات المقبلة إلى درجة وصفها ب »انتخابات تقرير المصير«. كيف تعاملتم مع هذه التطمينات؟ ** رئيس الجمهورية صاحب سلطات واسعة في إدارة شؤون البلاد، فهو الرئيس الرسمي والفعلي للجهاز التنفيذي، وهو الرئيس الفعلي وشبه الرسمي للجهاز التشريعي، كما أنه الرئيس الرسمي والفعلي للجهاز القضائي، فالدستور يُعطي للرئيس كل هذه الصلاحيات لذا يجب عليه عندئذ أن يسهر بنفسه على نزاهة الانتخابات القادمة. * أنتم تشكّكون في أرقام وزارة الداخلية بشأن الهيئة الناخبة وتعتبرون ذلك إشارة غير مطمئنة. أبحوزتكم إثباتات على وجود تضخيم في عدد الناخبين؟ ** ما يدفعنا نحو التشكيك هو المقارنة بين نسبة عدد الناخبين مع العدد الإجمالي للسكان في الجزائر، فهذه النسبة من الناخبين تتراوح عالميا بين 45 إلى 48 بالمائة من السكان لكن في الجزائر تتجاوز هذه النسبة 68 بالمائة وهذا غير معقول على الإطلاق. وحتى لا نذهب بعيدا نحن نتقارب مع المغرب في عدد السكان لكن القائمة الانتخابية عندهم في حدود 13 مليون ناخب ونحن تفوق 22 مليون فهذا فارق كبير جدّا، فهذا الأمر لا يُصدّقه العقل ولا يقبله المنطق ولا تصدّقه حتى تجارب العالم في الدول كلّها، فلماذا تكون الجزائر بهذا الحال شاذة. ثم إنني أعرف أناسا لديهم أكثر من بطاقة انتخاب وهم مسجلون في أكثر من بلدية، كما أعرف أناسا ماتوا ومع ذلك صدرت لهم بطاقات انتخاب وأرسلت إلى بيوتهم. ولا أنسى أيضا هذه الخروقات الصارخة لقانون الانتخابات الذي تمثلت أساسا في تسجيل المنتسبين إلى الجيش في البلديات خارج الآجال أوّلا، وبصفة جماعية وهذا خرق ثان لأن التسجيل فردي، وكذا من دون إحضار وثائق الشطب. * صرّحتم في أكثر من مناسبة بأن حزب جبهة العدالة سيعود أكثر قوة وأسع انتشارا، أنفهم من هذا الكلام أنكم استفدتم من عثراتكم السابقة عندما كنتم على رأس حركتي »النهضة« ثم »الإصلاح«؟ ** بالتأكيد، هناك تراكم لتجارب لا بدّ من الاستفادة منها وهذا فعل كل إنسان عاقل، وما قلناه أن جبهة العدالة والتنمية هي أوسع انتشارا وأعمق تجذّرا بين شرائح المجتمع ليس جديدا نقدّمه للناس وإنما هو أمر نطقنا به ليس إلا لأن الكلّ يدرك هذه الحقيقة ويعرفها، فجبهة اليوم تتمتع، ولله الفضل والمنة، بانتشار واسع مسّ مختلف البلديات ومسّ الكثير من الأرياف والمداشر والقرى والأحياء المختلفة وتشهد أكثر إقبال من طرف فئات المجتمع وهذا أمر قائم وواضح، ونسأل الله أن يجعل كل هذا في مصلحة البلد والشعب. * أنتم تتحدثون عن التداول على السلطة بين الأحزاب في حين أنكم قرّرتم تركيز كل السلطات في يد رئيس الحزب الممثل في شخصكم في إطار ما تسمونه »واحدية القيادة«. ألا ترى في هذا الواقع تناقضا بين المواقف والممارسة؟ ** أنا ما فعلت هذا وما كنت عضوا في اللجنة تحضير وصياغة القانون الأساسي والنظام الداخلي، وما تدخلت في عمل اللجنة التي اشتغلت أثناء المؤتمر ولا في عمل اللجنة التي اشتغلت في ذلك، كما أنني لم أراجع القوانين التي تمت صياغتها، فتلك إرادة الأعضاء الذين صاغوا هذه القوانين ثم قدّموا المشروع وفق ما اقترحوه من تصوّرات للمؤتمرين الذين ناقشوا كل المسائل وصادقوا عليها وتلك هي إرادتهم. وفي علمي فإنهم لم يفعلوا شيئا غريبا عما ألفته الأحزاب المختلفة وإنما عادوا لما ألفته هذه الأحزاب لاسيما مثلا جبهة التحرير الوطني أو التجمع الوطني الديمقراطي أو جبهة القوى الاشتراكية أو حزب العمال وغيرها. فأنا أستغرب مثل هذا الكلام الذي لا ينمّ إلا عن رغبة دفينة في محاولة النيل من شخصي أو من جبهة العدالة والتنمية، فالحاصل أن هناك كيلا بمكيالين ويعاملوننا بمنطق »حلال عليهم حرام علينا«، ونقول لهم اتقوا الله فينا. * لا تمرّ مناسبة إلا وتحدّثتم فيها عن »تنازلات« قدّمتموها من أجل إقامة تحالف إسلامي، لكن هذه »التنازلات« لم تفد في شيء كون الأطياف المحسوبة عن »التيار الإسلامي« في الجزائر أصبحت أكثر انقساما من أي وقت مضى. إلى ماذا يعود ذلك برأيكم؟ ** بالفعل فإن جميع التجارب التي كانت في هذا المجال فشلت منها التجارب الأخيرة التي قدّمتُ فيها كل التنازلات ولا يوجد شيء يمكن أن يُتنازل عنه الإنسان ولم أتنازل عنه، ولكن مع ذلك فشلت كل المحاولات لأسباب كثيرة ربما لكون هذا الأمر لم ينضج بعد لدى بعض الناس، وربما لكون بعض الناس ليسوا أحرارا في قراراتهم، وربما يكون الخوف لا يزال مسيطرا على قلوب البعض من كون الدولة ستكون بالمرصاد للشيخ جاب الله تطارده حيثما كان وتحاربه حيثما كان وتضيّق عليه حيثما كان، وربما لهذه الأسباب مجتمعة أو ربما لغير هذه الأسباب. ولكن أنا مقتنع أيضا أن الأصل في هذه المسائل إنما هو التعدّد لقوله تعالى: »ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك«، وأن المطلوب من القيادات ضمن هذا التيار هي أن تُحسن إدارة هذا الاختلاف، كما أن المطلوب من القيادة في الدولة في تعاطيها مع التعدّدية الموجودة داخل المجتمع هو أن تُحسن تنظيم هذه التعدّدية وإدارة هذا الاختلاف الموجود بين فئات المجتمع المختلفة، ومن هنا جاءت فكرة الديمقراطية التعدّدية لتكون أداة المجتمعات في تنظيم الاختلاف وضبطه حتى يكون اختلاف تنوّع وفيه التنافس على تحقيق ما هو أفضل لا اختلاف تضاد وتحارب. والتعدّدية في الجزائر لا تزال تفتقر إلى بعض الضمانات التي تجعلها بالفعل بهذه الصورة التي أقدّمها، وهذا النقص ليس جديدا ولا نلاحظه اليوم فقط بل هو نقص سجلناها على التحوّل الديمقراطي التعدّدي منذ أن كان، وقدّمنا فيه الرأي والاقتراح والمشورة لأصحاب القرار وصناعه في البلاد في مراحل عدة، ولعلّ الساحة تنضج أكثر في المستقبل ويتجه التواصل بالفعل إلى وضع الأسس التي تجيد تنظيم هذه التعدّدية لتحقيق الأهداف التي ذكرتها. * العارفون لحقيقة ما يجري من تشتّت وسط التيار الإسلامي يربطونه بالأساس بصراع الزعامة والقيادة، أم أن لكم رأيا آخر بحكم تجربتكم؟ ** هذا الكلام يصدق عليه المثل الشعبي القائل: »ورمتني بدائها وانسلّت«، فإذا كان التيار الإسلامي يشكو من هذه الظاهرة فإن التيار الوطني كذلك والتيار العلماني يشكو هو الآخر من هذه الظاهرة، وكل التيارات في الداخل والخارج تشكو من هذه الظاهرة لأن هذا هو الأصل في حياة البشر، والاختلاف والتدافع بين الناس هي من سُنن الله الثابتة في الخلق والمجتمع وفوائدها أكثر من مضارّها، وبفضل هذا التدافع تتم حماية الحقوق والحريات المختلفة ومحاربة الاستبداد والواحدية والاستغلال كما تبرز بفضله الكفاءات والطاقات، فالمطلوب كما سبق وأن تحدّثت هو الوصول إلى تعدّد يكفل الاختلاف والتنافس على ما هو خير وأفضل. أما فكرة الواحدية كأن يُصبح الناس كلهم على رأي واحد ووراء زعيم واحد ويتبعون منهجا واحدا وخطّا واحدا فهذا كلام عاطفي أكثر منه كلام واقعي لأنه صادم لطبيعة الفطرة البشرية، ولو أراد الله من عباده أن يكونوا كذلك لخلقهم بقدرات فهم واحدة وهكذا يزول السبب الجوهري في الاختلاف والانقسام، ولكنه سبحانه خلق الناس بقدرات فهم متفاوتة وجعل ألسنتهم )لغاتهم( حمالة أوجه وتحتمل أيضا معان ودلالات مختلفة لاسيما اللغة العربية، فإذا وضعنا اللغات حمالة أوجه مع قدرات فهم متفاوتة فإن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى اجتهادات وآراء مختلفة ومن ثمة إلى برامج وسياسات ومواقف وتوجهات مختلفة. تلك طبيعة سنة الله في الخلق والوجود وفي الاجتماع في نفس الوقت، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي أوجد هذه السنة وثمّنها ورفع من قدرها لقوله تعالى في سورة »الحج«: »ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز«. وفي نفس الوقت حثّ عباده على أن يتعاونوا على البرّ والتقوى وألاّ يتعاونوا عل الإثم والعدوان وعلى أن يرتقوا بأخلاقهم إلى أعلى درجات الكمال البشري، وأمرهم بالاستقامة والتعامل مع الناس بالحسنى مثلما حثهم على التسامح والتكافل الاجتماعي، وهذه المسائل وردت فيها من النصوص الشيء الكثير وترتبت عنها من الأحكام الفقهية ما لا عدّ له ولا حصر. وأنا أدعو الناس إلى أن يتفقّهوا في دلالات هذه المعاني وأن يُحسنوا ضبط مواقفهم وعلاقاتهم بها إذا أرادوا أن يكون تعدّدهم تعدّدا مفيدا ونافعا لأنفسهم ومشاريعهم ووطنهم وشعبهم. * هناك من يربط رفضكم الانضمام إلى ما يسمى »تكتل الجزائر الخضراء« باعتراضكم على تولي »حمس« زمام القيادة بدليل أنكم وصفتم الأحزاب الممثلة لهذا الائتلاف ب »الانبطاحيين« للسلطة. أليس كذلك؟ ** أظن أن في ما ذكرتُ من كلام فيه بما فيه الكفاية للجواب على هذا السؤال، أما ما قيل عن وصفي إياهم ب »الانبطاحيين« فهذا كلام صحف وجرائد دأب بعضها، سامحها الله، على الترويج لما هو واقع على أنفسهم وليس ما يقوله المتحدّث خاصة إذا تعلّق الأمر بشخصي أنا، وغالبا ما يكون في أنفس هؤلاء مجرّد الظن الكاذب أو السيّئ. ما حصل أنني تحدّثت عن القوى المختلفة التي شهد مسارها ولا يزال بموالاتها للنظام وسياساته واندمجت معه الاندماج الكامل في تزكية سياساته وتبييض ممارساته وكانت شريكته في كل المراحل السابقة ولا تزال، وهذا الكلام ينسحب على من في التكتّل كما ينسحب على غيرهم أيضا من أحزاب التحالف التي هي جزء من هذا النظام وهذا ليس سرّا أكشفه لأنها هي تباهي بذلك. فبدلا من أن يُذكر الكلام الذي قلته في إطاره العام والشامل والكلي تمّ ذكره على النحو الذي أراده أصحاب وهذا سلوك ومنهج لا يقبله دين ولا خلق ولا تقبله مروءة في نفس الوقت، والمفروض ألاّ يُقوّلوا الناس ما لم يقولوه وأن يُنقل الكلام في سياقه العام، فلهؤلاء منهجهم في الانبطاح وأنا لي منهج آخر في الممارسة السياسية يقوم عل أساسيين أشرت إليهما في جوابي على سؤالكم، والفاقه لطبيعة المناهج السياسية يُدرك عمق الفرق بين هذا المنهج وذاك، وإذا أردتم التفصيل في هذه المسائل فأنا مستعدّ لذلك. * إذن كيف تتصوّرون أنتم الصيغة الأنسب لنجاح التكتّل الإسلامي في الجزائر بعيدا عن صراع الزعامة؟ ** أنا أتساءل: ما قيمة هذا السؤال اليوم؟ فنحن مقبلون على انتخابات كل طرف يدخل فيها بألوانه، فلو كان هذا السؤال قبل هذا الوقت لأجبتك عليه، ولأجبتك أيضا بكثير من التفصيل، لكن الآن بعد أن حصل ما حصل أعتقد أن مثل هذا السؤال لا قيمة له. لكن الذي يمكن أن أضيفه هو أن التيار الإسلامي مشتّت، فهناك من دعا إلى المقاطعة وهناك من اختار التكتّل ضمن مجموعة من الأحزاب ) ثلاثة أحزاب(، وهناك من له حزب آخر وهو ماض في سبيله وهناك أيضا جبهة العدالة والتنمية التي تمضي في سبيلها معتمدة على طاقاتها، وهذا كله يجري وسط شعب يعرف حقيقة هذه الأحزاب وطبيعتها، كما يعرف جيّدا حقيقة قياداتها ومساراتها، وأعتقد أن الشعب سيصنف بعد هذا ويضع كل حزب في مكانه وفي موضعه اللائق به. * واقع التيار الإسلامي في الجزائر يدفع الشعب نحو النفور منه وما يزيد في ذلك هو التخويف الحاصل من »غول الإسلاميين« سواء كان ذلك من طرف السلطة أو من خصومكم خارج السلطة. ما هي رسالتكم لهؤلاء وأولئك؟ ** إن كنا نحن نتألم لهذا التشتّت فغيرنا كذلك يتألم منه وقد صدق ربي لما قال: »وإن كنتم تألمون فإنهم يألمون كما تألمون«، فهذا الأمر مشترك ولكن الزيادة جاءت في قوله تعالى »وترجون من الله ما لا يرجون« ونسأل الله التوفيق. وأزيد على ذلك فأقول أن هذا التخوّف لا مبرّر ولا سند له على الإطلاق، فالأحزاب المحسوبة على التيار الإسلامي تؤمن بالدولة المدنية ونظام الحكم المدني وتسهر على ضمان الحريات الفردية والجماعية دون مفاضلة وحمايتها من التعسّف، كما أنها تؤمن بتداول الأحزاب على السلطة عن طريق انتخابات حرّة ونزيهة مثلما تؤمن ببسط مبادئ العدالة وعلى رأسها سيادة مبدأ القانون وتجعل مؤسسات الدولة المختلفة ومؤسسات المجتمع مضطلعة بواجباتها في حفظ حقوق المواطنين ضمن إطار القانون. ومنهجنا نحن الذي عبّرنا عنه إنما هو منهج يقوم على التسامح والتراحم والتغافر والتواد والتعاون. * بعكس ما تتحدّثون عنه فإن الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي صرّح مؤخرا بأن الجزائريين يريدون من يقدّم لهم برامج ويتكفل بانشغالاتهم وليس من يعلمهم أحكام الوضوء والصلاة. كيف تردّون؟ ** لو كان هذا الرجل فاقها لطبيعة الوظيفة التي هو يضطلع بها من كونه رئيسا للوزراء ما قال هذا القول، لأن في طاقمه الحكومي وزراء متعدّدون بمن فيهم وزير يسمى وزير الشؤون الدينية، وكلّ يضطلع بمهمته ووظيفته في إطار ما هو مكلّف به. هل يعني هذا الكلام أن هذه الوزارة لا قيمة لها ومهمّشة ولا يُلتفت إليها مطلقا؟ إذا كان الأمر كذلك لماذا لا تُشطب أصلا، ثم هل يعني هذا الكلام أن هذه الوزارة موجودة وجودا شكليا؟ عندما يقول إن الجزائريين لا يريدون من يُعلّم الناس الصلاة والوضوء وإنما من يُقدّم لهم برامج لحلّ مشاكلهم فإن هذا الكلام مبني على جهل مطبق بطبيعة الدولة في الإسلام وطبيعة المشروع الإسلامي، فلو كان فاقها لطبيعة الدولة في الإسلام لأدرك أن وظائف الدولة متعدّدة ومتنوّعة، فهي مثلما تسهر على الاضطلاع بمسؤولياتها في ما يرعى مصالح وحقوق وحريات الناس الدنيوية في مجال حياتهم المختلفة فإنها تضطلع كذلك بمسؤولياتها في ما يرعى دين الناس ويحفظه لهم. ولو كان هذا الرجل فاقها لطبيعة المشروع الإسلامي لأدرك أيضا أن الدين عند المسلمين مقدّم عن الدنيا، فمن أهم الأدلة التي اعتمد عليها الصحابة رضي الله تعالى عنهم في مبايعة أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين ) أي رئيس دولة ( قولهم: »رضيهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلّم- لديننا أفلا نرضاه لدنيانا«، وقد جاء هذا الكلام بعدما قدّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلّم- ليصلي بالناس أثناء مرض الموت فكان هذا التقديم منقبة خُصّ بها أبو بكر الصديق من طرف رسول الله - صلى الله عليه وسلّم- وكان ذلك دليلا قويا رفع به قدر أبي بكر وجعله أهلا لخلافة الرسول عليه الصلاة والسلام في تولي أمور الدولة. إذن فمثل هذا الكلام يمكن الردّ عليه بعشرات الأدلة لكن الخلاصة أنه كلام لا معنى له ولا قيمة له أساسا. * سبق ذلك هجوم أعنف من لويزة حنون ضد شخصكم بعد أن اتهمتكم بخدمة أجندة غربية وأنكم»خطر على الجزائر«، جاء ذلك على خلفية لقاء جمعكم مع سفيري الولاياتالمتحدة وفرنسا بالجزائر. هلا وضعتمونا في صورة ما حصل في هذين اللقاءين؟ ** أنا تجاوزت عن هذا الهراء في ذلك الوقت وقد مضى عنه ما مضى وتريدني أن أعود إليه اليوم، لو أعطيته قيمة لرددت عليه في حينه. وللتوضيح فإن مثل هذه اللقاءات عادية بين رؤساء الأحزاب وممثلي السلك الدبلوماسي وليس بدعة، وهذا أمر طبيعي وعاد جدا كان موجودا منذ أن دخلت البلاد في التعدّدية، ثم إن مثل هذه اللقاءات موجودة في الجزائر مثلما هي موجودة في العالم كلّه، خذ أيّ حزب أو أي رئيس حزب واسأله إن سبقت له لقاءات مع سفراء الدول الأجنبية في بلادنا فسيجيبك بأن هذا سلوك ونشاط عاديان، والزيادة بالنسبة لنا أن اللقاء انعقد في مقر جبهة العدالة والتنمية وكان بطلب منهما، ولكن للأسف فإن الحقيقة الخفية التي لا يُفصح عنها هؤلاء هو الخوف الذي سكن قلوبهم من تأسيسنا لجبهة العدالة والتنمية، ولذا فهم آخذون في محاولات التشويه ويتوهمون بالغث والسمين، والغثّ أكبر وأكثر من السمين.