في أعقاب ندوة شاركتُ فيها وصلني سؤال مكتوب من أحد الحاضرين، وجلّهم من الطلبة، عن تصوّري لعالم بلا تلفاز، وكان السؤال مفاجئا فعلا لأنني لم أدرك مغزاه حقيقة وهل يعيش صاحبه في الطرف المؤيد لهذه الثورة المرئية العارمة فيكون السؤال دعما لإنجازات الإنسان في هذا المضمار، أم أنه ساخط على ما وصلت إليه الإثارة التلفزيونية وما جنته على القيم الأصيلة والعادات والتقاليد الراسخة منذ القدم. أثناء جواب أحد زملاء الندوة عن الأسئلة الموجّة إليه اهتديت إلى فكرة ربما تكون الجواب الأصوب لمثل هذه الأسئلة.. كانت ورقتي في الندوة حول الوسائل المعاصرة ودورها في الإصلاح الاجتماعي، وقد توسّعتُ في الحديث عن دور التلفزيون والإعلام (القديم)، وأخطر منه دور ما صار يعرف بالإعلام الجديد، الذي ولد من رحم عالم الأنترنت، كالفيس بوك، وتويتر، ويوتيوب... قلت في جوابي: إن الأقدر على تصوّر عالم بلا تلفاز هو روائي متمكّن يستطيع الغوص في عوالم الناس المختلفة وزوايا حياتهم المتعددة والتالي يرسم لنا صورة أقرب إلى الحقيقة عن ذلك العالم الذي يفتقد التلفاز والصورة فجأة، بعد أن ألِفها سنوات طويلة وصارت أشبه بالعمود الفقري في ثقافته وأخباره واقتصاده وسياسته وسلمه وحربه.. وقلت بعد ذلك إن الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تكمن في أحشاء أسئلة أخرى من قبيل: هل يمكن تصوّر عالم معاصر بلا عجلة بعد اكتشاف الإنسان لهذه الوسيلة ومساهمتها في تقدّم البشرية؟ وهل يمكن تصوّر عالم بلا ورق وطباعة؟ وهل يمكن تصوّر عالم بلا آلات بخارية؟!!.. وعلى هذا المنوال، وانطلاقا من التلفزيون الأرضي إلى ما بعده وهو الفضاء المليء بالأقمار الاصطناعية الزاخرة بكل ألوان الطيف؛ ندرك حجم الهوّة التي نعيش فيها عندما تظل قضية السمعي البصري في الجزائر تراوح مكانها لأسباب ما زالت عصيّة على أفهام المتخصّصين والمراقبين فضلا عن المواطنين العاديين. إنّنا على أعتاب انتخابات مفصلية بكل معنى الكلمة، وقد حضرت فيها السياسة والسياسيون، وحتى أشباههم، وبرزت القوائم والبرامج، وظهرت إلى السطح موائد طويلة عامرة سواء بمعناها الحقيقي أو المجازي.. لكن الغائب الأكبر هو الإعلام (الثقيل) كما شاع هذا المصطلح في الجزائر، وما هو بثقيل في الحقيقة لأن دولا أقل منّا ثقلا في جميع الجوانب (استخفّت) هذا (الثقيل) وصار حمله وإشاعته متاح لكل من أراد، وحتى من هبّ ودبّ في بعض الدول العربية. تجمّع في الآونة الأخيرة جمع من الصحفيين في إحدى ولايات الجنوب الجزائري، وحضر معهم ضيوف من دول عربية ومغاربية، ودار الحديث طويلا حول موضوع السمعي البصري في الجزائر.. وسوف أنقل بعض ما دار من انطباعات وأسئلة وصرخات المشاركين، على اختلاف زوايا النظر والخلفيات والتجارب: (إذا لم تفتحوا هذا المجال فيجد طريقه إلى الفضاء من الخارج وقد يكون أشدّ قسوة على الخائفين، وأكثر تحريضا عليهم. أن تتحول بعض الصحف إلى الفضاء، فهذا جميل وعادي لكن المشكلة أن تتحول بالعقلية نفسها والضبابية وغياب الرسالة الوطنية الواضحة والسامية التي تعصم المسيرة من الوقوع في فخّ الإثارة شبه المطلقة. المؤسسات الإعلامية والمسؤولية ومفهوم المواطنة. تجربة ثمانين صحيفة يومية في الجزائر هل هي قيمة مضافة أم عكس ذلك، وهل سينعكس الأداء السلبي في الصحافة المكتوبة على عالم الفضائيات الجزائري المرتقب. هل الجهات الوصيّة جادة في فتح مجال السمعي البصري، تساؤل طرح أكثر من مرة، وكان الردّ والتعليق دائما أن هذا السؤال لم يعد مستساغا على الإطلاق).. كلام كثير تداوله الصحفيون وكان الأمل في فضاء مفتوح هو القاسم المشترك، وجاءت التوصيات لتلخّص جميع الحكايات: (التعجيل في تحرير الفضاء السمعي البصري في الجزائر ودخوله حيّز التنفيذ. إنشاء مدينة إعلامية مغاربية. تطوير التبادل والتعاون في مجال التكوين والخبرات بين الإذاعات والفضائيات المغاربية. التواصل مع الخبرات المهنية المغاربية المهاجرة...) علينا أن ندرك حجم المشكلة، وأن نشعر بالحزن والأسى لأننا على أبواب حملة انتخابية تغيب عنها الفضائيات الجزائرية المرتقبة، ومع ذلك نتمنى أن تكون هذه الفضائيات حاضرة بقوة عبر حديث الأحزاب والقوائم حولها وإطلاق وعود صادقة بالعمل على تحريرها لتضيء سماء الجزائر، وتكون علامة فارقة من علامات المرور إلى التغيير السلمي الشامل الذي نتوق إليه بعد انتخابات العاشر من ماي. من مأثورات المهاتما غاندي قوله: "إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، ولا أن يُحكم إغلاق نوافذي، إنني أريد أن تهبّ ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري". وعلى منوال غاندي لا بدّ من التأكيد على أن السماء المفتوحة فُرضت على الجزائريين وانتهى الأمر وشايع وبايع قسم من المواطنين هذه القناة العربية وشايع وبايع قسم آخر منافسة لها، وفي أيدي أطفالنا جهاز تحكّم يتنقّلون به بين القنوات الخاصة بهم، وما أكثرها، ويهيم قسم من الشباب على وجوههم بين قنوات رياضية وغنائية متعددة.. فأين نحن في جميع تفاصيل هذا العرس الإعلامي المتنامي؟ يصعب أن يظلّ بيننا من يدعو إلى الانغلاق التام والانكفاء على الذات ورفع الجدران على حدّ تعبير غاندي، لكننا نريد جدرانا متوسطة الحجم تتيح لنا مرور نسمات الهواء وتحمينا في الوقت ذاته.. نريد إعلاما يعكس شخصيتنا ويُعلي من شأن تراثنا ويقدّم ما لدينا إلى الآخرين، ويشخّص مشاكلنا بموضوعية وشفافية ومهنيّة.. ولا بأس أن نتابع معه، وقبله وبعده، قنوات عربية وأجنبية أخرى، فنحن جزء من هذا العالم القريب والبعيد شئنا أم أبينا.