إن الذكريات العظام تبقى عظيمة لا ينقص من شأنها الدهر ولا يبليها، ولا تمحو لها الأيام مرسما، ولا أثرا، إنما يبقى الناس يتلهفون لذكراها ويزدادون تعلقا بجمالها، لأنها لجوجة ملحاحة مصرة عل فرض وجودها أمامهم، وإن تركوها وراءهم لم لا؟ وهي الوسيمة الحسناء التي لا يضاهيها حدث ولا يطاولها ذكر، ولا يضارعها مثيل، ولا يقارعها ند ولا نظير في أن يبقى الحديث عليها ذو شجون. إن من تحسس نبض الشارع بعد إحياء ذكرى الثامن ماي الأخيرة والإشراف الشخصي لرئيس الجمهورية على الاحتفاء بها، وعاين ردود الأفعال التي قارنت بين المناسبة وبين الخطاب وبخاصة منه الهوامش والذيول والتأويلات يقف على حقيقة مفادها أن التطابق كان سيد الموقف بين مفاخر الذكرى ومدلول الكلمات وكأن ما جرى كان بمثابة التوأم في دقائق الوصف ومميزات التشبيه وخصوصيات التوريث، لذلك التطرق إليها لم يفته الزمن. مجاهد من الرعيل الأول عاش محن الثورة وإحن حرب غير متكافئة ذاق فيها ومن سبقه الويلات وعايشوا ضراوتها فاكتووا بنارها واحترقوا بلهيب زمهريرها، فقدوا خلالها وعلى مرأى ومسمع منهم قوافل الشهداء من رفاق السلاح وخلان النضال وإخوان البذل والعطاء إلى درجة التضحية بالمهج وبالأرواح، لذلك التحمت الذكرى بالكلمة وامتزجتا فكونتا جسدا واحدا تشابكت أعضاؤهما واشتكت إلى بعضهما ضنك الأيام الآنية والتحذير من رعب الآتية، فشكلت في تناغمها في تلاحمها في صدق عناقها لبعضها بعضا ملحمة اختلطت فيها دموع الفرح بدموع الخوف من المغادرة دون ملامح واضحة لمن سيحفظ الأمانة ويرعى الوصية ويصون الوديعة، فشخص حال الجمع صورة المبتسم الحزين. الصورة التي أملتها ظروف الزمان والوضع المضطرب للجوار ولجوار الجوار، وما ينعق داخل البلد سواء بلسان التغريب أو تبني أدوات ووسائل الجوار التي فضحها وعراها الخطاب الذي كان بمثابة النداء الذي استجاب له الشباب فتحمل رسالة التجاوب والبلاغ إلى درجة التأثر والإجهاش بالبكاء. ليس بالأمر غرابة لأن الأستاذ الملقن حاذق ماهر وفي حسا ومعنى، والمتلقي أشبال يزأرون في عرينهم زئير الأسود من أسلافهم الذين ضحوا بالنفس والنفيس من اجل أن يعيش في كنف الاستقلال والحرية والسيادة، ونزهوا بإباء في ربيع الجزائر ربيع العزة والكرامة. لا أدري لمن الحق للذين بكوا أم للذين لم يبكوا أم أنهم بكوا جميعا، إنما الفرق بين الفريقين هو الفرق فقط بين من خانته دموعه ففضحته بكشف تجهيش عواطفه وتهييجها، وبين ذلك الذي تجمدت أشجانه فحبست دموعه في مآقيها أو رقرقت في المحاجر تاركة آثارها على قسمات الوجه وأخاديد الخدود. كنت يوم الثامن ماي الأغر غائبا خارج البلد، ولما عدت بعد يومين عشت الحدث وتاريخه والحديث وأصداءه في المؤسسات في الشوارع في المحلات عند الأجيال بمختلف الأعمار والمناهل والتوجهات. من بين ذلك كانت محدثتي تصف لي الخطاب بنبرة حادة، وفرائسها ترتعد، كمن ينتظر زلزالا، أو سيدخل في معركة مجهولة العواقب، اكفهر وجهها، تسارعت نبضات قلبها تعقد لسانها حتى أبهمت كلماتها، حملقت، ركزت قالت: أنا خائفة على الجزائر بعد الرئيس، ثم استطردت أنا أنتخب، ثم ابتسمت فبكت وبكت..؟