قصة: ليندة بلمباركي كان هذا أول عهدي بها•• تقابلنا عند محطة القطار، كانت الساعة تشير الى الخامسة مساء وحيدة، جالسة على حقيبتها الكبيرة، رامية بجسمها النحيل الصغير نظرت إلي بابتسامة ملؤها الخوف والقلق، فأحسست أنها تريد أن تسألني، إذا كنت مسافرة أم لا؟ لعل الوجهة واحدة، فتستأنس في سفرها برفيقة من بني جنسها••• •• الى العاصمة؟ كان هذا ما خطر ببالي حين تكلمت معها• فأجابتني دون أن تنطق بكلمة، وهزت رأسها بالموافقة• أردت أن أسترسل في الحديث معها - اسمي هناء••• وأنت؟ - هديل كان صوتا خافتا، نديا، رقيقا فيه نسمة هادئة من الطفولة - هل تزورين أقرباء لك في العاصمة يا هديل؟ - لا، بل أدرس - رائع، وماذا تدرسين؟ - الموسيقى كلمات مختصرة، توحي بالتردد والخوف - ما أروع الموسيقى إنها تشعر الانسان بإنسانيته وبروحه ومشاعره أليس كذلك؟ حاولت أن أستمر في الحديث معها، حتى لا أشعرها بذلك التوتر والقلق الذي أحسسته في عينيها، فأردت أن أسأل وأسأل لعلي بذلك أشعرها بالاطمئنان - هل ستنهين دراستك قريبا؟ - ليت هذا يحصل•• إنه عامي الأول••• وكم أشعر بالخوف• أخيرا استطاعت أن تلفظ عدة كلمات، وبدأت أحس بالخوف يغادرها وحل نوع من الانسجام والألفة بيننا• أخبرتها أنه لا داعي للقلق والخوف، وستمضي الأعوام بسرعة دون أن تشعري بها، وستصبحين عازفة ماهرة ومشهورة في المستقبل• - آ! على فكرة ماذا تحبين أن تدرسي في الموسيقى؟ أو على ماذا تحبين أن تعزفي؟ - الناي، أنا أعشق العزف عليه• - هذا رائع، إذن ذاك الشيء الطويل الذي يظهر من حقيبة يدك هو الناي؟ - أجل• وابتسمت ابتسامة صغيرة، ووضعت يدها في الحقيبة وأخرجته منها ووضعته على فمها الصغير، وبدأت العزف• كانت هذه أول مرة أسمع عزفا على الناي وعلى مرأى مني أمواج البحر تحملك معها الى عالم من السكينة والمشاعر والأحاسيس الجميلة•• وفجأة توقفت عن العزف - أتمنى أن لا أكون قد أزعجتك بعزفي•• فأنا لا أجيد العزف بشكل جيد• - بالعكس كنت رائعة ومعزوفتك هذه•••؟ - إنها معزوفة البحر البحر!!••كيف استطعت أن تدركي ما أحس به•• لقد سمعت فعلا أمواج البحر•• ذلك الصوت؟! - أعرف - مااذ يعني هذا؟ - إنها قصة طويلة يوما ما إذا شاءت الأقدار سأقصها عليك - حسنا كما ترغبين••• أخبريني منذ متى وأنت تعزفين؟ - منذ أن كنت في الرابعة من عمري - ياه أربع سنوات! سن صغيرة جدا على تعلم العزف! - كان الفضل لوالدي، كان عازفا موهوبا• وسكتت فجأة•• بدأت الدموع تصنع طريقها على خدها الوردي - ما الأمر؟ لعلي أثرت بعض الأحزان في نفسك! - لا، أبدا، تذكرت والدي رحمه الله - آسفة جدا، لم أكن أقصد - كان يحب العزف•• وأطرقت رأسها تتحدث عنه دون أن أطلب منها ذلك، أحسست أن هذا يريحها، فأصغيت إليها بتمعن، وأنا أنظر الى عينيها كيف تشعان بريقا• - كنا نقيم في قرية صغيرة، واستطاع أن ينجح في ممارسة العزف، وأصبح يحيي حفلات هنا وهناك، الى أن دخل لمعهد الموسيقى وبدأ يشتهر، وازداد المعجبون به، الى أن جاء ذلك اليوم وسكتت طويلا•• - ماذا جرى؟ - استدعي والدي لإحياء حفل كبير في المسرح القومي•• كانت فرحته كبيرة حفل كبير تحضره كل الشخصيات المرموقة من فنانين وسياسيين ومبدعين، تمنى أن يلتقي بهم يوما ما• ارتدى بذلته السوداء وقبعته التي تذكرني بالمحقق تشارل كهومز، وضحكت وضحكت معها، ثم واصلت حديثها بيأس كبير: قبلني والدي قبلة دافئة على جبيني، وقال لي يومها: سيصبح والدك أفضل عازف في العالم• وابتسم• طلبت منه أن أحضر معه هذا الحفل، ووافق بدون تردد، اختار لي مقعدا من المقاعد الأمامية•• وكان الجموع هائل وكلهم يرتدون بذلات سوداء، أخبرت والدي يومها، لماذا كلهم يرتدون بذلات تشبه بذلتك؟ فضحك وقال: إنهم يقلدونني يا بنتي الحبيبة• عزفت فرقة موسيقية معزوفة كانت تعلن بها الافتتاح وصعدت بعدها امرأة في غاية الجمال لازلت أتذكر شكلها ووجهها ونادت على أبي كي يصعد للمنصة، عندها عرفت أن الوقت قد حان• صفق الحضور بشدة، وبدأ والدي يحييهم، وأخرج يده البيضاء حاملة الناي الخاصة، وبدأ العزف• معزوفة الروح• أعرفها جيدا، كنت أنام على أنغامها نقلني والدي الى عالم الخيال بعزفه ذلك• نظرت الى الحضور، فكانت فرحتهم كبيرة، مستمتعين بعزفه، وفجأة توقفت المعزوفة وانتشر الصمت في المكان وسكت الناي، وتوقفت الألحان التي كانت تخرج منه• التفت الى المنصة، فوجدته مطروحا على الارض لم أتمالك نفسي•• صرخت بأعلى صوتي، أبي، أبي•• لكنه لم يجب وكان هذا آخر عهدي به•• - صفارة القطار، إنه قادم حان الوقت• صعدت الى القطار، ورمقتني بنظرتها الصفية، تودعني بابتسامة مشرقة•• أشارت بعينيها الى المكان الذي كانت جالسة فيه• إنه الناي!؟ - إنه لك، ربما يوما ما نلتقي•• احتفظي به•• أذكريني لم أع ماذا كانت تقصد؟ ولما تركت الناي؟ أحسست بإحساس غريب راودني حينها•• أنني لن ألتقي بها مجددا• ••• ومرت الأيام، كنت يومها مارة ببائع الجرائد اقتربت منها•• وتأملتها•• صرخت•• وفاة فتاة في ظروف غامضة ملقاة أمام باب المسرح القومي•