في الوقت الذي يستمتع فيه أقرانهم بطفولتهم ، و يحيون في ظروف تضمن لهم على الأقل الحد الأدنى من شروط الحياة الصحية والنمو بصورة طبيعية، تجد فئة من الأطفال نفسها مرغمة على البحث عن مصادر للاسترزاق حتى ولو شكل ذلك خطرا كبيرا عليهم ، لكن حين يتعلق الأمر بلقمة العيش أو المساهمة في ضمانها فلا مجال للحديث عن السن أو البنية الجسدية ،أو الطريقة والوسيلة ،فالمهم هو المكسب حتى وان كان ذلك في المزابل العشوائية والعمومية نظرا للانتشار الكبير للأسواق في حي بومعطي بالحراش مثل سوق الشيفون،و طاولات البيع المتراصة أمام بعضها البعض والتي تمتد على طول الطريق الممتد من إكمالية "بومعطي" إلى محطة نقل المسافرين بالإضافة إلى سوق الملابس، وسوق الخضار تتحول هذه الأماكن بحلول المساء إلى مزبلة عمومية تنتشر فيها جميع أنواع النفايات من كرتون ومواد بلاستيكية وأحذية وقطع الملابس الصالحة للاستعمال والخضروات الفاسدة التي يقبل عليها الكبار قبل الصغار، في هذا الفضاء يلتقي أطفال يتراوح سنهم بين الست والعشر سنوات، معظمهم من أبناء الحي، هذه النفايات خاصة البلاستيكية منها كقارورات المياه والزيت والصناديق التي يقوم هؤلاء بجمعها وإعادة بيعها خاصة مع وجود جهات خاصة تشتري هذه المواد منهم لاسترجاعها واستعمالها أو بيعها مجددا لمؤسسات تعمل في هذا المجال، ويشكل المبلغ المتحصل عليه من هذه التجارة التي تعتمد على المزابل ومخلفات بضائع الباعة من نحاس رصاص نظرا لقيمتهما المالية المعتبرة في أعين الطفل الصغير والتي تصل إلى 1000 دج مقارنة مع الحاجة و الفقر اللذان يعانون منه • أطفال في رحلة البحث عن الكسب كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء عند تواجدنا بسوق بومعطي والذي كان يخلو من ضجيج الباعة وصراخهم وحتى المارة غادروا المكان ، ولم يبق فيه سوى بعض الباعة من - الدلالة- يجمعون سلعهم المتمثلة أساسا في القطع القديمة والأسطوانات التي استغنى عنها مستمعيها وبعض الدمى وملابس تعود إلى موضة السبعينات، رأينا جماعة من الأطفال يمسكون بعصا خشبية تدل على قوتهم و" سيطرتهم "على المنطقة ، يحرسون الملابس التي خلّفها باعة الشيفون كأنهم بصدد حماية وحراسة كنز ثمين، حتى إن بعضهم يخفي تحت ملابسه سكاكين قاموا باقتنائها لهذا الغرض ، كما أنهم يملكون الاختيار بين عدة أصناف من هذه الأسلحة البيضاء حتى النوع مثل "كلونداري" • كانت ملابس هؤلاء الأطفال رثة ونظراتهم حادة وسلوكهم عدواني وصراخهم يملأ المكان ويستعملون ألفاظا تخص الكبار وكأنهم رجال تحملوا قساوة الدنيا وتعرضوا لمشاكلها وهمومها رغم صغر سنهم • محاولاتنا للاقتراب منهم كانت في البداية صعبة، كون مظهرهم أوحى لنا بخطورتهم لأن الفكرة السائدة عنهم تؤكد ذلك ، لكن مع الرغبة الكبيرة لدينا للتعرف على هذه الفئة تمكنا أخيرا من الحديث إليهم وكان كلامهم ينم عن متاعب ومصاعب كثيرة تتخلل حياتهم وقضت على طفولتهم وأفكارهم البريئة• محمد (9 سنوات) وكما يبدو هو قائد المجموعة المتكونة من 06 أطفال وأكثرهم حيوية تحدث إلينا بطلاقة لسان ولم يقبل منا مداعبته ومعاملته كطفل لأنه رجل و "الراجل حدايدي" على حد قوله،و بعد دردشة قصيرة معه سمحنا لأنفسنا بالاقتراب من الكنز الذي"جمعوه "نظر إلينا رشيد وكان أكبر من محمد قليلا وقال لنا بصوت خجول وحركات كان يقوم بها "هاذ لحوايج ملاح تع الخارج، اغسليهم مليح ولبسيهم•• والله غير ماركة"• انتهزنا الفرصة وسألنا رشيد عن أحواله المادية وسبب ارتياده على المزابل، ما إن هم رشيد بالإجابة حتى قاطعه محمد ونهاه وقال لنا بصوت غاضب "واش دخلكم" بعد هذا السلوك السلبي ومحاولات كثيرة باءت بالفشل انسحبنا وتركنا مجموعة الأطفال تنتقي أفضل الملابس، ربما لبيعها أو ارتدائها في وقت يحاول فيه أطفال كثيرون الاستمتاع بوقتهم في أحضان العائلة لارتشاف القهوة ومشاهدة الرسوم المتحركة أو اللجوء إلى مقاهي الإنترنيت أو الحدائق العامة مع أوليائهم والمسارح وفضاءات خاصة بهم يستمتعون فيها بطفولتهم بدلا من المزابل ونظرات الناس المجحفة في حقهم• وقفنا في هذه الجولة التي قمنا بها على حقائق مرة تقشعر لها الأبدان، فأمام أكوام النفايات المترامية هنا وهناك وقع نظرنا على امرأة نحيفة جاوزت العقد الرابع من عمرها مع ابنتها الصغيرة التي لم يشفع لها جمالها وعيناها الزرقاوان بان تنعم بحياة هانئة حيث كانت الملابس الرثة التي ترتديانها تؤكد الحالة الاجتماعية الصعبة ، فكانت الأم تحمل كيسا أسود وتجمع الخضار الفاسدة لعلها تسكت آلام الجوع والحاجة، أما الفتاة الصغيرة التي لا تتجاوز الخمس سنوات فكانت تحاول جلب شيء من أكوام القاذورات بإصرار كبير راقبناها لمدة خمسة دقائق، والأم منشغلة بمتاعبها وهمومها وانتقاء الخضر التي قد تصلح، ولم تنتبه إلى طفلتها التي نجحت أخيرا في الحصول على ضالتها المتمثلة في حبة طماطم نصفها فاسد، لم تهتم بمشكل النظافة لأن بطنها الخاوي كان مستعدا لأكل أي شيء، بعد انتهاءها من التقاط البقايا من المزبلة أخذت في اللعب تارة وفي النظر إلى أمها تارة أخرى. فقد عينه في رحلة البحث عن الرصاص وخلال جولتنا في بومعطي التقينا بشاب في الثالثة والعشرين من عمره، يشتغل في دكان لبيع الكتب الدينية والقمصان، حسن الحديث ويشهد له الكل بأخلاقه الحميدة، لم يسعفه الحظ في مواصلة دراسته، ولا يعكر صفو حياته إلا منظر عينه المفقوءة وعن هذا الحادث الأليم يقول "كنت في العاشرة من عمري عندما فقدت عيني، حيث كان يقوم هو وعدد من أقرانه في جمع الرصاص بالمزبلة وإعادة بيعه لمصنع متواجد بالمنطقة ،وكان العديد من الأطفال يحترفون هذه " التجارة " ،خاصة وان المبلغ المقدم من طرف هذا المصنع يساعدهم في شراء الكثير من الحاجيات ،وبالرغم من أني –يقول محدثنا دائما- لم أكن انتمي الى عائلة فقيرة قمت بذلك و تعودت على هذا حيث كان منظر الأطفال وهم يجرّون وراءهم عشرات القارورات البلاستيكية أمرا مألوفا• وفي أحد الأيام ذهبت مع أخي إلى منطقة – "الطيميط" - وهي منطقة يتجمع فيها المنحرفون والأطفال الذين يهربون من عيون الرقابة -لأذوب الرصاص وفجأة تطاير إلى عيني فأحسست بألم رهيب، بعد ذلك نقلت إلى المستشفى، لكن كان قد فات الأوان وأصيبت عيني اليسرى و فقدت نعمة البصر على مستواها ، تألمت كثيرا لذلك ، فقصص الحوادث في ذلك الوقت لم تكن تنتهي إلا بالمآسي، فكم من حوادث حصلت بسبب جمع الرصاص أو النحاس لبيعها للمصنع، مما أدى إلى تحذير هذا المصنع من قبل السلطات من استقبال مثل هذه الأشياء من الأطفال"• دمية وسط خطر الموت كانت وجهتنا أيضا مزبلة واد سمار، هذا المكان الذي تنبعث منه روائح كريهة يستقبل كل يوم عشرات الشاحنات محملة بأكوام من القمامة من كل أنحاء العاصمة في رحلات مستمرة لم نستطع الدخول إلى هذه المزبلة الكبيرة نظرا للازدحام على الجسر الصغير المؤدي إليها ، ومن مكاننا رأينا ما تحويه متشردين مجانين وكذا الكلاب الضالة والآلاف من الطيور البيضاء التي تقتات من هذه القاذورات بالإضافة إلى عمال النظافة وعمال المؤسسات التي تسترجع هذه القمامة وتعيد صياغتها في منتجات جديدة كالكرتون والبلاستيك والرصاص والنحاس وعلب العصير وما إلى ذلك• كان اهتمامنا منصبا على الأطفال الذين يلجأون لهذه المزبلة التي تعتبر بالنسبة لمعيار سنهم وقوتهم خطيرة ومرعبة على صحتهم من الناحية الجسدية والنفسية، خاصة وأنها قبلة لمختلف الفئات كان هدفنا الاقتراب من أحد هؤلاء الأطفال و أخيرا وجدنا ضالتنا في طفل لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر كان يعبر الجسر متوجها إلى المزبلة، أسمر البشرة يرتدي ملابس رثة وقبعته الممزقة لا تحمي وجهه النحيل من أشعة الشمس في هذا اليوم الشديد الحرارة في حدود الساعة الواحدة زوالا، بصعوبة كبيرة أقنعناه بالحديث إلينا حتى إننا قدمنا له بعض النقود، هو ابن منطقة " الراية" يأتي تقريبا يوميا إلى المزبلة لأنها تحتوي حسبه الكثير من الأشياء المفيدة التي يستطيع أخذها والاستفادة منها أو بيعها مثل الأواني القديمة أو المواد البلاستكية وقد أكد لنا والابتسامة تعلو محياه أنه في إحدى المرات وجد دمية جديدة قدمها لأخته الصغرى التي فرحت بها كثيرا، وعند سؤالنا عن الوضعية العائلية التي يعيش فيها ، نظر إلينا باستهزاء وقال" العشرالاف خلاصوا "وانصرف الصغير الذي لم نعرف حتى إسمه في خبايا المزبلة لعله يجد شيئا يعيد إليه بسمته وطفولته الضائعة وسط الصعاب والحاجة والروائح الكريهة والمتشردين والحيوانات الخطيرة التي قد تتسبب عضة منها في فقدانه للحياة كالكلاب والجرذان، لم ننتظر طويلا هذه المرة وعبر طفل آخر الجسر وما إن اقتربنا منه وحاولنا الحديث معه، حتى ثار وأسمعنا وابلا من الشتائم والكلام البذيء، في حقيقة الأمر لم يكن موجها إلينا بذاتنا بل إلى هذه الحياة التي تركت هذا الصغير وسط عالم لا يمت له بصلة، انسحبنا من الجسر وتراجعنا رويدا أمام الشاحنات التي توفد القمامات إلى المزبلة وتركنا آمالا معلقة لأطفال كثيرين يحلمون بنوعية وجودة أفضل للقمامات المحملة على الشاحنات للاستفادة منها لتعينهم على مصاعب هذه الحياة، بينما يحظى أقرانهم بحياة لائقة ومحترمة•