حين نقارب موضوع الخطاب العربي في أبعاده القومي والسياسي والديني والوطني وفي توجهه للداخل والخارج، وفي تعامله مع معطى الصراع مع العدو وما نتج عنه من اتفاقيات، ومع العدو وأعوانه وحلفائه على أرضية تلك الاتفاقيات، حين نقاربه في واقعه وأساليبه وأدواته ومتطلبات العصر، وفي ضوء المبدئية القومية ومخاطر التطبيع مع العدو الصهيوني وآثاره البعيدة، فإنما نسعى من خلال الحوار البناء، إلى تلمس أفضل سبل الأداء الإعلامي والثقافي العربي، العلمي العملي، الذي يمكننا من التعامل مع الرأي الآخر، ووسيلة الاتصال الحديثة ومتطلباتها، ومع الكتلة الجماهيرية، التي قد تكون مغلقة أو مستلبة أو متكلسة حول موقف واقتناع أو محاصرة على نحو ما.. نفعل ذلك بهدف خدمة الحقيقة، وبيان الموقف، وتحريك الراكد، والوصول إلى حيوية التحاور والتواصل وتفعيل القدرات، والإمكانيات، وزجها في تيار الوعي المسؤول عن حق وعدل ومستقبل وأرض ومصير. حول أمور نراها من أكثر ما يؤثر سلباً أو إيجاباً في قضيتنا المركزية العادلة، وصراعنا الرئيس مع العدو الصهيوني، وكذلك في توجه الكتلة الجماهيرية العربية الضخمة في ساحة الأرض العربية كلها، وتحركها المجدي خدمة لحقوقها ومصالحها ونهضتها ووحدتها وتواصلها مع العصر وهي محصنة بالوعي والمعلومة والمنطق والحجة وحيال ما يفتك بها، وجعلها تنتعش وتفكر وتتحرك بعيداً عن التقوقع والجمود والتكلس من جهة، وعن الاستلاب والقهر، والتبعية والغوغائية والرغائية الجماعية وأشكال الإعاقة والتغييب والمصادرة من جهة أخرى. أن يكون الخطاب العربي، عصرياً موضوعياً، علمياً، واعياً لأهدافه ووسائله، متمكناً من أدواته، قادراً على الوصول والإقناع، مؤثراً في الوجدان محيياً له، قوي المنطق، مستنداً إلى تاريخية ومرجعية قوميتين تشكلان سنداً لحق، ومسوغاً للاستمرار في النضال والأداء من أجل الأهداف العربية الكبيرة العادلة... أن يكون الخطاب العربي عصرياً هو هدف وهدف قومي وإنساني مشروع. وأن يكون الخطاب مالكاً للمعلومات الدقيقة الصحيحة وقادراً على توظيفها بما يخدم الأهداف الإستراتيجية للأمة العربية، ومالكاً للبنية والبيان والقدرة على تفنيد ما يطرحه العدو وعملاؤه وحلفاؤه، وما تضخه وسائل الإعلام المعادي في الرأي العام العربي، وما استقر في الوعي على أنه نهائي، أو الاختيار الوحيد الذي لا بديل له، مما قدمه نهج الاستسلام، والانفعال من حالة الانتقال بما يقدم، والرد على الهجوم المتجدد إلى حالة المبادرة في الطرح والتقديم والهجوم من موقع القوة والثقة بالنفس والقدرة على التعامل مع القوة المعادية الغازية.. هدف من أهدافنا القومية وهو هدف مشروع، وعمل مرغوب فيه... حتى لا نبقى أسرى لغيرنا ونغزى في عقر دارنا، ونقوم بالصد دون الرد. وأن يكون لخطابنا المتمسك بالثوابت والمقاوم للتطبيع مصطلحاته وأساليبه الراسخة، لا سيما في المجال الإعلامي. وأن يكف عن ترويج المصطلح المعادي وتسويقه، والبقاء في وضع تبعية له على نحو ما، والانزلاق إلى أهدافه على أرضية الانبهار والمجاراة السالبة، كما يكف عن تقديم صورة للعدو وتكرار تقديمها بهدف جعل الناس يألفونها ثم يقبلون على الحوار معها، ثم يعطونها كل الحق في العيش والأمن والاستقرار والحوار في الأرض العربية المغتصبة، ومن موقع الآمن المطمئن بعد أن سرق واحتل وقتل وفرض الأمر الواقع، مع نسيان العربي الضحية... إن الكفّ عن ترويج المصطلح المعادي وتسويقه، هدف من أهدافنا، وهو هدف مشروع لأن التعايش بين الضحية والجلاد وتسويغ ذلك أمر لا يقبل ولا يسوّغ. لقد قدم الإعلام العربي رموز الصهاينة وأعلامها ودعاة التوسع والاحتلال الذين ولغوا في الدم العربي واستباحوا كل ما يتصل بالفلسطيني وحياته ومستقبله وحقوقه، قدمهم بوجوه وآراء ومنطق، وأدخلهم إلى معظم البيوت العربية، من دون أن يربط تلك الوجوه بجرائمها، وتلك الآراء بعنصريتها وعدوانيتها واستمرارية مشروعها، وتلك الرموز الأعلام بالفعل الصهيوني العنصري وبالممارسات والمذابح والمعتقلات... وبالاحتلال والعدوان المستمرين... ومن دون أن يربط أولئك بنتائج أفعالهم على الشعب الفلسطيني الذي مازال يعاني من سرقة وطنه وإغفاله حقوقه، وتشويه قضيته ونضاله... كما ساهم الإعلام العربي بإضفاء صورة الإرهابي على المقاوم إلى درجة ما، متأثراً بحملات الإعلام الغربي الصهيوني في هذا الاتجاه، ولم يقدم دفاعاً مشروعاً عادلاً وإنسانياً عن المقاومة والمقاوم الإنسان ذي الحق المشروع في الدفاع عن النفس والأرض والبيت والكرامة والعقيدة والمقدسات والهوية... الدفاع عن ذلك ضد أشكال العدوان والمحو والاحتلال والتشويه والاستلاب. ولم يقدم أيضاً مشروعية المقاومة ضد الاحتلال بوصفها حقاً مشروعاً لكل من احتلت أرضه ووقع عدوان عليه؛ بل وضع ذلك موضع نقاش في أفضل الحالات... مما جعل المقاومة موضع تساؤل وتسويغ وأخذ ورد. وقد شارك الخطاب الثقافي والإعلامي فيه خاصة، الخطابَ السياسي العربي توجهه وهو الذي اتفق أو توافق مع العدو الصهيوني ضد المقاومة بحكم اتفاقياته وممارسته التطبيع أو رغبته في الوصول إلى ذلك والتمهيد له بما يرضي الآخر عنه. وكانت النتيجة مشاركة في المنطق والتوجه والأهداف، سواء أراد ذلك واعياً له منخرطاً في خضمه أم سار في مساره متأثراً به منفعلاً بتبعية تاريخية، تبعية خطاب الإعلام لخطاب السياسية وتعبيره عنها، وتبعية الخطاب السياسي العربي لخطاب الغير وتأثره به. إن أحد الأهداف الأساسية التي نعمل عليها هو التركيز على نوعية الخطاب العربي المطلوب، لا سيما إعلامياً وثقافياً، في مجال مقاومة التطبيع واستمرار المقاومة، والتركيز التحليلي على مواقع الاختراق الثقافي والإعلامي والاجتماعي والاقتصادي ومحاولة تشخيص ذلك بدقة، وتحديد سبل التصدي لذلك الاختراق وأدواته وأهدافه البعيدة وكيفية مواجهتها. إن ذاكرة أمتنا العربية ووجدانها المتصلين بالصراع العربي الصهيوني ومعطياته وأهدافه، بوصفه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، هما المستهدفان في الخطاب الصهيوني المعادي والغربي المناصر له والعربي السائر في ركابه المعبر عن ذاته في خطاب التطبيع، بوعي لذلك أو بانسياق مجاني، وبتشجيع أو سكوت رسمي عربي في دول كثيرة. ولأننا نؤمن بعروبة فلسطين، وبحقنا التاريخي فيها، وبالبعد القومي لقضية فلسطين، وبكونها قضية عادلة، نرى أنه لا بد من المحافظة على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين وحيويتهما، وعدم السماح بتشويه محتوياتهما أو تشويش تلك المحتويات، ومقاومة كل أشكال اجتثاثهما من الراهن وحجبهما عن التأثير في المستقبل، بغسلهما واستبدال محتواهما بما يسمى "ثقافة السلام" بدلاً من "ثقافة الحرب"، التي تركز على تعايش بين الضحية والجلاد، وإقرار حق المغتصب فيما اغتصب؟! - وهو أمر مستحيل القبول- كما ترتكز على ضرورة نسيان كل ما قامت به الصهيونية والقبول بالأمر الواقع المفروض وبنتائجه، والتعامل ب"واقعية" انهزامية، مع منطق القوة العدوانية وما حققته من أهداف وما تفرضه من وقائع، وما ترسم له في المستقبل من تطلعات. والسؤال المطروح هو : هل على الأمة العربية أن تقبل ذلك وتهيئ أجيالها للقبول به والاستسلام له، ومن ثم تفرض أن ينحو الخطاب الإعلامي والثقافي منحىً واحداً ليرسخ ذلك تربوياً واجتماعياً في المدى البعيد؟! أم أن الأمة بطلائعها الفكرية والنضالية، رافضة وينبغي أن ترفض منطق الهزيمة والاستسلام والخضوع، بدونية مستمرة التأثير، لمطالب الصهيونية والاستعمار الغربي الحديث وللخطاب السياسي العربي الذي يكرس ذلك ويخدمه بأشكال مختلفة منها: تغييب المواطن، واستلاب الحرية، وتقويض بنى المنطق والعقل والقيم والوجدان، وتحويل الناس إلى شرائح قطعاً نية تأكل وتعمل وتقبل بما يقول الراعي... أو فالمسلخ أمامها على كل حال؟! الذي يختار هو المثقف ذو الرؤية والموقف والانتماء والتاريخ والعقيدة.. والاختيار التزام واعٍ لأهدافه ووسائله ومرتِّب لثمن ذلك الاختيار، فلكل اختيار ثمن. المثقف الذي يختار رفض الاعتراف بالعدو الصهيوني ومقاومة تطبيع العلاقات معه، عليه أن يختار سلاحه /خطابه/ وميدان المواجهة، وألا ينسى أن معركته تتركز في جبهتين رئيسيتن: جبهة مواجهة الخطاب المعادي بكل ألوانه، أساليبه وقدراته- ولهذا إستراتيجيته وأساليبه- و الخطاب العربي الداخلي والموجه إلى الخارج، بأغراضه وأورامه وأعراضه... مواجهة إنشائيته وشعاراتيته وانفعاليته وطوباويته وزَوَغانه عن الحق والمجابهة.. وتكسّبيته وانتهازيته وتبعيته لخلافات الأنظمة وللحكام، ولتبعية قطرية ضيقة غدت صيغة اعتراضية على القومية، ولولوجه في سوق الكلام الذي تفتحه أجهزة معادية وأنظمة لا تريد أن ترى في المثقفين إلا حاشية من الطبالين والزمارين تسير في ركاب الحاكم. إن الخطاب المقاوم للتطبيع هو أولاً وقبل كل شيء خطاب رافض للهزيمة وللدونية ولاتفاقيات الإذعان الماضية واللاحقة، رافض للكيان الصهيوني ولمشروعه الذي هو مشروع نقيض ومضاد لأي مشروع نهضوي وحدوي استنهاضي عربي، وهو خطاب يعتمد على الواقعية التفاؤلية، الإيجابية، التي ترى الأمة ومستقبلها من خلال التوظيف الأمثل لقدراتها وطاقاتها وإمكانياتها البشرية والمادية والروحية.. إنه خطاب يرفض هزائم الأعماق، وتكريس الدونية، والمنطق الذي يريد أن يقدم الأوضاع العربية والدولية الحالية، على أنها أوضاع نهائية أبدية لن يطالها التغيير... ويريد أن يقدم الولاياتالمتحدةالأمريكية على أنها قوة أبدية والكيان الصهيوني على أنه ضربة قدرية لازبة. إن منطق الحياة القائم على الحركة لا يعرف هذا النوع من الحتميات، والحركة تحمل التغيير، وعلينا أن نعرف كيف نوظف جهودنا بعلم وإيمان لنكون فاعلين في رسم تيار ذلك التغيير وصنعه. إن الخطاب المقاوم للتطبيع هو خطاب مناصر للوعي المعرفي، للعدالة والحرية، للعلم وتطبيقاته، ولحرية الإنسان العربي وحقوقه الأساس، ومنها الممارسة الديمقراطية بمسؤولية ووعي، والدفاع عن حقوق الأمة التاريخية باقتدار وانتماء ورؤية ونَفَسٍ طويل وروح نضالية خلاقة تبدع أساليبها وأدواتها، وتتفوق في مواجهة كل ما يشيع الإحباط واليأس وكل ما يرمي إلى تفتيت الإرادة وقتل الحلم وتدمير الحس القومي والأمل القومي والمسؤولية القومية. إننا بحاجة للدفاع عن التاريخ الذي لقّناه لأجيالنا، وعن الجغرافية التي درسناها ودرّسناها لأبنائنا، وبحاجة للدفاع عن المناهج والتربية القومية والدينية ومنظومات القيم وحقائق التاريخ وما قدمه الشهداء على طريق فلسطين منذ بدأ النضال من أجلها. نحن بحاجة للدفاع عن أدب المقاومة، ولإعلاء شأن المقاومة، في الفكر والأدب والحياة.. بحاجة لاستلهام نتائج الجهاد المنتصر في الجنوب اللبناني ونماذج التضحية والبطولة والاستشهاد النوعي الذي تشهده ساحات فلسطين، ولإحياء تاريخ النضال الفلسطيني منذ بداية القرن من أجل عروبة فلسطين وتحريرها... وبحاجة من جهة أخرى للدفاع عن الإنسان لأنه لن نبني ولن نحرر ولن نصمد من دون الإنسان القادر على إدراك أهمية ذلك والعمل من أجله باقتدار. ونحن بحاجة لمفاتيح في الخطاب العربي، هي مفاتيح أصلية أصيلة وعصرية في آن معاً... فالخطاب المتورم مرفوض، والخطاب الضعيف المهزوم مرفوض، والخطاب الذي يروج العدو ورموزه ومصطلحاته وفكره مرفوض، والخطاب المنغلق على أوهامه، المشبع بشعاراتية خاوية والدائخ في دوامة نزوع تعصبي من أي نوع: قومي أو أيديولوجي أو ديني أو طائفي أو قطري، خطاب مرفوض. ولأننا نستشعر الخطر المتزايد باجتياح التطبيع لأنظمة وأقطار ومساحات اجتماعية وثقافية واقتصادية وإعلامية في الوطن العربي، نتنادى لكي نتحاور ونتعاون ونتفق ولو على الحد الأدنى من المشترك، الذي نبني على أسسه جبهة مواجهة أعرض وأمتن وأقوى.... جبهة تقاوم التطبيع على أساس رفض الاعتراف بالعدو الصهيوني... والذي يعني سحب الاعتراف بالشعب الفلسطيني على نحو ما. جبهة تقاوم الاستسلام والهزيمة النهائية للأمة، وتعري كل من يزيّن الاستسلام والهزيمة ويسوقّهما ويقتل الروح القومية باسمهما... جبهة تعزز، في المقابل: الأمل والعمل على الأرض، لا سيما بين الناشئة والإيمان والقيم والتوجه القومي وكل ما يبني كتلة عربية قادرة على المحافظة على خصوصيتها وهويتها ومصالحها والدفاع عن حقوقها في عصر العولمة والتجمعات البشرية الضخمة، عصر قوة الأمم والدول تستمدها من العلم والعمل به، ومن طاقة الصمود والنهوض الحضاري بمعناه العميق، وتستمدها من الإيمان والطاقة الروحية التي يولدها ويجددها ذلك الإيمان، ومن الدور الحضاري المستعاد بقوة الحلم المشروع والإرادة الفردية والجمعية: الوطنية والقومية، التي توظف الجهد المبدع من أجل امتلاك قوة محررة ومنقذة، لاستعادة الحق والكرامة، وحماية القيم والهوية والأرض ومقومات الحياة والمصالح. فهل ترانا نحلم بأكبر مما يستحقه تاريخنا وما يتسع له واقعنا، وتمتد له رؤانا يا ترى؟ إن الحلم يبقى أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع.. وتبقى أرض الثقافة هي حوض الاستنبات الأمثل لكل ما يصنع الوعي والتقدم والنهضة، ويعزز الحرية والإبداع. والخطاب الذي يصنع ذلك ويقاوم ما يضعفه وما يغشيه من ظلال وظلام وطغيان ووهن، هو الخطاب المطلوب.. والخطاب هنا هو للقادرين على صنع الخطاب الملائم للإنقاذ والتقدم والتحرير والنهضة، بحرية وعلم وانتماء عربي ومسؤولية قومية إنسانية.