قد تبدو هذه الوقفة عند البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي استفزازية في صوغ الأسئلة التي تطرح علينا نحن العرب المسلمين أو على المسلمين إجمالاً، لأنها توجه مباشرة نحو الإسلام ممن يكنّون له ولأهله ضغينة، حتى من مسلمين ما عاد يربطهم بالعقيدة إلا الاسم وبعض الشكليات، ومن مسلمين مسجلين "في قيود السجلات المدنية"، بينما يختارون موقفاً من الإسلام أو موقفاً من الدين هو في غاية السلبية. ونبدأ بطرح أسئلة البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي مركِّزين على الشق الإسلامي في ذلك البعد. وهو بعد متأصل في خطابنا الثقافي العربي بشكل عام، وتجده في الموروث الشفهي والكتابي، ولا يمكن للجديد أن يتجاوزه كما لم يستطع المجددون والحداثيون والمحافظون بأثوابهم الجديدة الهادفون إلى النيل منه والمشككون به والعاملون على إخراجه من دائرة المقبول والمعقول ومن ثم العصري والإنساني، والمراهنون على غيابه بعد حضور في هذا العصر، أن ينالوا من قدرته وأهميته وحضوره.. والمدخل إلى الكلام فيه يبدأ بسؤال: هل هو خطاب متخلِّف أم يقود أصلاً إلى التخلف من حيث مرجعياته وغيبياته وأدواته ووسائله وأساليبه؟. إنه سؤال يثير الانزعاج والاحتجاج، بل والغضب المفضي إلى العنف، وربما العنف المشروع أكثر من أية مشروعية أخرى لأي عنف من أي نوع، لأنه من غير المقبول ومن غير المحتمل توجيه نقد ضمني لخطاب يشكل رصيده أعظم ما في الوجدان الشعبي وما في الإرث الثقافي المتداول من رصيد، وتشكل معطياته جوهر الاعتقاد والقيم والمعايير التي تدخل في التكوين الروحي العميق لأي فرد، من دون تحقيق تلك الإثارة أو الجرح لمشاعر الناس واستنفارهم من الداخل! وخطاب يجرح مشاعر الناس ويستنفرهم هو خطاب يخرج بهم عن المألوف. ربما كان ذلك ليس من حق صاحب الخطاب ولا من حق الخطاب ذاته بالنتيجة، على الرغم من مشروعية أن يسعى الخطاب الجرح والتعديل بأدب ومنطق وإلى الخروج عن المألوف بعد الولوج فيه. وهل هو خطاب عصري ذو مستقبل أو يمكن أن يفيد الناس في المستقبل، أم أنه خطاب عفَّى عليه الزمن وتجاوزته البشرية، ونقض بنيتَه العلم، ودمرت هياكله الحداثة وما بعدها فيما دمرتاه من بنى.. وأثار العقل من حوله الشك فزعزع بعض ما يترسخ فيه وما يرمي إلى ترسيخه في الوجدان الفردي والجمعي من ثوابت، وما يقوم عليه الوعي الإيماني من يقين؟. ليس من المفيد التهرب من سؤال ومن دوائر تنداح على صفحته مهما كان فجاً واستفزازياً ومتهافتاً، فالتهرب لا يلغي الشك ولا ينهي المشكلة ولا ينقض السؤال، حتى لو احتجب وراء غلالات من ضباب وغبار. والسكوت على السؤال لا ينهي عملياً ممارسات ووقائع ومعطيات تنتثر على هذا البساط في عالمنا اليوم. في خطابنا الثقافي بعد ديني /إسلامي ومسيحي/ ويتجلى هذا البعد في منظومات قيم ومحرَّمات ونواهٍ ودعاوى، ويواجَه خطابنا الديني بتهم، أو توجَّه إليه تهم، وينسب إليه بعض التطرف والتحريض عليه، أو قل التعصب والتحريض عليه. ويُرمى الخطاب الإسلامي على الخصوص، من قبل قوى معادية ذات تأثير عالمي ومن قوى عربية ذات حضور رسمي أو أيديولوجي ثقافي أو علماني مضطرب الرؤى، بأنه الإرهاب أو يؤسس لنوع من الممارسة تصب في دائرة الإرهاب، ويحاول العدو الصهيوني على الخصوص وحليفه الأميركي إلصاق هذه التهمة بكل تحرك اجتماعي وكفاحي يستند إلى ثوابت التحرير والحق والعقيدة، وينادي بالمقاومة وامتلاك القوة المؤهِّلة للتحرير والدفاع بفاعلية عن الهوية والعقيدة، عن الجغرافية والتاريخ!. فهل نقرُّ ذلك جملة أو نرفضه جملة، أم أن هناك هوامش على كل صفحة تتصل بذلك القول وبالرد عليه وتفسح في المجال للتأمل والتروي والمحاكمة؟. بداية أوضح موقفاً ورأياً بإيجاز: إن الخطاب الديني موجود ومؤثر وهو في حالة نمو، موجود عند بوش كما عند بن لادن كرمزين له، وموجود في حالة تورم عند كل صهيوني ومعظم اليهود، ورصيده على الأرض كما في الوجدان، يتعزز في معظم الوقت. وشعبنا ذو اعتقاد ديني ثابت واضح متين تصعب زعزعته أو زلزلته، وليس من السهل مجاوزة هذه الحقيقة أو القفز فوقها، وهو في هذا ليس بدعاً بين الشعوب ولا يشكل شذوذاً في العصر. والخطاب الديني هو جزء من الهوية والشخصية، جزء من التكوين الروحي والفكري والنفسي والاجتماعي، ولا مصلحة لنا في إضعاف تأثيره أو في تهميشه، ولا في السكوت على من يعمل على إضعافه أو تهميشه. ولن يكون ذلك الخطاب عامل ضعف أو تخلف إلا من خلال فهمنا له واستخدامنا إياه ونوع تواصلنا معه ومع العصر من خلاله. وليس هو سبب التخلف ولا يمكن أن يكون، وإنما فهمه وتوظيفه وأداؤنا له وتوظيفنا لذلك الأداء قد يكون متخلفاً أو مريضاً أو قائماً على الجهل وسوء الفهم فيقود من ثم إلى التخلف والمرض وضيق الأفق والتحجر والتعصب والممارسات المرفوضة. وما لم يحث الخطاب الديني على حقيقة كون الدين مكارم أخلاق، ومعاملة تجسِّد تلك المكارم والتعاليم السامية التي جاء بها( )، وتواصلاً مسؤولاً مع الناس من أجل الحياة والناس، فإنه سيبقى قاصراً على نحو ما ومعوِّقاً على نحو ما أيضاً. المصادر الإسلامية الأساس لذلك الخطاب /القرآن ثم الحديث ثم السنة الثابتة قولاً وعملا، ومن بعد تأتي اجتهادات المجتهدين/ والمراجع كثيرة. ولمن ملك القدرة عقلياً وشرعياً وعلمياً وتمكن من المعرفة العميقة وأدواتها، ومن الفقه وأدواته.. حق الاجتهاد. ولا يخلو الاجتهاد من جهاد من نوع متفوق ومتألق في بعض الأوقات والأماكن والظروف. ولكن هل يمكن أن يُغَلق علينا أبواب الفهم والتبصر والتأمل والاجتهاد إلا جهل أو قصور أو تعصب أو تجاهل أو تجهيل أو تسلط؟! وهو مما يُرفَض الاحتباس في أقفاصه والركون إلى معطياته ونواهيه وأحكامه وظلمه وظلامه؟! ومن ذا الذي يمنع من التأمل والتفكّر والتبصر والتدبُّر.. وهو كله مما يحث عليه الدين ويحتِّمه العقل ويقود إليه الوعي، ويستدعيه التقدم، وتفرضه سنة التطور في الحياة!؟. يفترض في الخطاب الديني أن يعزز الإيمان، والإيمان كلٌ لا يتجزأ، ومن حَسُن فهمه لدينه حَسُنَ إيمانه وحَسُنَ سلوكه وحَسُنَ أداؤه في الحياة وتعامله مع الناس وما يصنعه لهم. "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، والمؤمن حرٌّ لا تحكمه عبودية لغير الله، ولا طاعة عليه لأحد في معصية الخالق أو في الدعوة إليها، ومعصية الخالق تكون، لدى المؤمن، في كل ما يؤثر في صفاء الرؤية والقلب والعقيدة وينعكس في السلوك والمعاملة.. وفي كل ما ينطوي على ظلم أو غش أو فساد من أي نوع ومناصرة ذلك والسكوت عليه، والمؤمن إن أحسن الفهم والتمثّل والسلوك.. "يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً" وهو القول المستند إلى قوله تعالى : "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين."/ سورة القصص الآية 77 /. وفي ظل هذا التوازن المعيار، والمعيار المتوازن، ينشأ إقبال غير محدود على الحياة وإغناء بلا ضفاف لها، كما ينشأ إقبال على ما أحله الله سبحانه لنا فيها وهو يكاد يكون بلا ضفاف بوصفها ممراً إلى مستقر؛ كما تنشأ مراعاة غير منقوصة لما يوفر اطمئناناً روحياً إلى فعل شامل حكيم، ينفع في الدنيا ويشفع في الآخرة.. دار القرار. وخطابنا الديني القائم على الإيمان والداعي إليه لا ينقض العلمَ ولا يضعفه العلمُ بل يعززه؛ ولا يجوز، بأي حال من الأحوال، أن يعوق الإيمان الاندفاع في طرق العلم كافة أو يقصِّر في دفع الناس إلى السير في تلك الطرق كافة. و"إنما العلم بالتعلُّم" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضل الإسلام العالم على الجاهل: "وهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون."!؟. فليس هناك وعي من دون معرفة واستخلاص عِبَرٍ وتكديس خبرة واستقرائها، ولا يكون ذلك خارج حدود العلم والعمل به حسب مناهجه، ولا يكون أيضاً على هامشه وهامش الإيمان بقدرته على الإنقاذ وتعزيز الإيمان ذاته. ولا يتحقق تقدم من دون تحويل معطى العلم النظري إلى تطبيق عملي على أسس تقنية عالية تمكّن من توفير المنتجات المتقدمة في الميادين كلها، المدنية والعسكرية، حيث تتوافر مقومات البقاء والحماية والأمان والصحة والحرية والسعادة والازدهار في ظل التقدم والأمن من جوع وخوف. فإذا شكّل الفكر الديني عائقاً في وجه تقدم الإنسان ونمو قدراته توجب طرح السؤال على الفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين وليس على الدين، ووجب تقصي أسس الفهم والتفسير والتأويل والتدبَّر والتدبير. وقد فتح القرآن أمامنا أفق التجاوز بالعلم والإيمان من دون حدود، حيث جاء النص في قوله تعالى: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان"، والسلطان هنا علم وحجة وبرهان وعقل ومنطق وقدرة على الأداء حسب مناهج العلم وتطبيقاته وما يغذي ذلك ويطوره من معارف وعلوم ومعلومات، بإبداع وابتكار متفوقين؛ وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام /اطلبوا العلم ولو في الصين/ ولم يكن في الصين علم من علوم القرآن أو الحديث أو السنة أو علوم العربية، يوم ورد الحديث، مما يعزز القول بأنه جاء للحث على بذل أقصى الجهد لتحصيل المعرفة بكل أشكالها والعلوم بكل أنواعها.. حيثما أمكن ذلك ومهما كلف من جهد ومال وتضحيات، وجاء ليحث على امتلاك القوة الشاملة بالمعرفة المتكاملة كيفما تم ذلك. ورباط الخيل الذي نرهب به عدو الله وعدونا ذاك الذي حثنا القرآن على إعداده وامتلاك زمامه، أصبح اليوم، بالتطور والتقدم العلميين والتقنيين، أصبح رباط صواريخ وأقمار صناعية وطائرات ودبابات وقنابل ذكية متعددة القدرات والأنواع، وذلك أمر مندوب إليه ديناً وشرعاً وعلماً وعقلاً وبقاءً وانتماء قومياً لأن فيه حماية للناس والدين والقيم والأرض والحق ممن يعبث بذلك كله. ولا يجوز أن يكون الخطاب الديني مصدر اعتراض على النزوع القومي والتمايز القومي، لا عند العرب ولا عند سواهم من الأقوام، ولا سيما في ديار الإسلام؛ لأن الإسلام لم يمنع التمايز القومي بل منع التعصب القومي والغلو والغطرسة والتعالي على الأفراد والأمم.. والحالة الاعتراضية مستمرة على التعصب والغلو والتمييز العنصري، فقد فضَّل الناس بعضهم على بعض بالتقوى وليس بالعِرْق والدم واللون: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الحجرات/ الآية "13"، كما جعل الانتماء إلى العروبة انتماء ثقافياً رفيعاً في صورته الإنسانية الأسمى حيث جاء في الحديث الصحيح: " أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي." وهنا انتماء يتعالى على العصبية العُصابية العنصرية باستمرار، وعلى فصائل الدم والعرق، وعلى أشكال العصمويات أنَّى كان شأنها ومنشؤها. وعلى هذا فإنه من غير المقبول أن يتعارض الشق الديني من خطابنا الثقافي مع الشق القومي لذلك الخطاب، ولا أن يقف الشق القومي من ذلك الخطاب عاجزاً عن فهم حقيقة شمول الخطاب الديني لأقوام شتى وضرورة تعاليه على عصبياتها وعصابها ونبذه لذلك العصاب العصبي التعصبي وعدم إلغائه للتمايز، فالأساس هو التكامل وليس التضاد أو التناقض أو التنافي أو التخاصم والاجتثاث المتبادل. وهذا يفضي بنا إلى طرح موضوع التفاعل الحيوي والتداخل العضوي بين البعد أو الشق الديني والبعد أو الشق القومي من خطابنا الثقافي اللذين ما انفكا في نزاع وفراق وصدام منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى مطلع هذا القرن على نحو ما، لدرجة خيل معها للبعض أنه لا يستقيم حال الأمة إلا بنفي أحدهما للآخر، وكأنهما ضدان لا يلتقيان، مع أن الواقع والمعطيات القومية والتاريخية والدينية تشير إلى غير ذلك. وسبل الخروج مما تشعر به الأمة من تآكل وتفتت في إرادتها وما تلاقيه من مآزق وأزمات وضعف وتهافت واستهانة بمصالحها وحقوقها ناتج في معظمه من تفرق أو تضاد، في العمق، في جوهر ما يكوِّن مقومات الخطاب وما يعتريه من أمراض.. صُنِّع ذلك وغذِّي به الخطاب بمهارة واستمرار، لجعل العروبة في مقابل الإسلام والإسلام في مقابل العروبة فأضعف الطرفين ونال منهما، وجعل أعداء الأمة يستبشرون بتحقيق انهيارهما في هذا القرن الحادي والعشرين كما أعلن بعض الغربيين في مطلع التسعينيات من القرن العشرين: ".. كما شهد القرن الحالي انهيار الماركسية والشيوعية سوف يشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام.". فهل يكون ذلك من غير أن نكون نحن شركاء فيه، ومن غير أن تمزق سكاكيننا أحشاءنا بأيدينا؟! إنني أشك بذلك شكاً مطلقاً، فمعظم مداخل الأعداء إلى ساحاتنا كانت تتم: لضعف فينا وقصور عن فهم حقائق ما لدينا وما حولنا وما ينبغي لنا، أو عن تواطؤ من بعضنا ضد البعض أو الكل، أو عن العاملين معاً.. وفلسطين ثم العراق مثال حي على ذلك. وكل هذا يمكن التنبه إلى مخاطره وتجاوزه، لا سيما ونداء الدم يرتفع من الأقصى، ونداء الله يدعونا إلى حقيقة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم." الرعد / الآية "10". فهل إلى تفعيل الصحوة الدينية والقومية والجماهيرية واندماجهما عضوياً في أداء يرفع البلاء ويعيد الحياة لما مات في جسم الأمة وخلقها من سبيل؟ّ لأن أمتنا أثبتت أنها قادرة على التصدي لأنواع الغزو والعدوان والنهوض من الكبوات، إذا كانت متماسكة ومؤمنة بقضية عادلة وبأنها قدمت الكثير ويمكن أن تستأنف دورها العالمي باقتدار.