يتكلمون عندنا عن" سلام"، وتفاوض، وتحالف جديد عتيد يضم الكيان العنصري ودولنا العربية هو التحالف من أجل المتوسط، أي من أجل "إسرائيل"، مبادرة ساركوزي التي توشَح المبادرة العربية بوشاح مقبول غربياً لأنها حملت ثلاثية " الاعتراف والتطبيع والحماية الجماعية لأمن الدولة العبرية"، ويتكلمون من ثم عن تدجين المقاومة ضد الاحتلال وإنهاء مسوّغات وجودها وبقاء سلاح بيدها ويسكتون عن وصمها بالإرهاب، ولا ينطقون كلمة، خوفاً أو طمعاً، ضد دول تمارس الإرهاب وتفتح لأبنائهم المعتقلات وتنتهك الحرمات كلها تحت دقة السمع والبصر!.. ويتكلمون هناك في فلسطينالمحتلة عن الاستيطان المتنامي، والتدريبات العسكرية، والأسلحة النووية وغير النووية المتقدمة والمتنوعة، وعن التحالفات الدولية ضد ما يسمونه "محور الشر" والإرهاب، وعن الإعداد للعدوان حيثما توجب توجيه الضربات الاستباقية لمن يرون فيهم قوة محتملة، وعن إستراتيجية خاصة لضرب لبنان عند استئناف العدوان على المقاومة لاستعادة الثقة بالذات وقوة الردع الإسرائيلي المفقودة. يقول أحد ألسنتهم الجنرال الصهيوني غيورا ايلاند رئيس مجلس الأمن القومي في الكيان الصهيوني، أي كيان "الأبارتهايد" والنازية المتجددة والعنصرية المتبلدة، يقول: "الشيء الوحيد الجيد الذي كان في الحرب الأخيرة هو الضرر الذي سبب لسكان لبنان. إن هدم آلاف البيوت التي يعيش فيها "أبرياء" ينجح في الحفاظ على شيء من الردع الإسرائيلي". ويعِدنا هذا الإرهابي العتيد في خطاب يقدّم فيه لحكومته أهدافاً إستراتيجية جديدة لحرب عدوانية جديدة، يعدنا وينصحهم بأن "السبيل الوحيدة لمنع حرب أخرى هي أن نبين أنه إذا نشبت فقد تهدم لبنان حتى القواعد. لن تخاف ذلك حكومة لبنان فقط بل إن حزب الله المشفق جداً على الحفاظ على شرعيته سيحجم إذا أدرك أن هجومه سيفضي إلى دمار يثير السكان عليه". هذه هي السياسات الراسخة في التكوين العام هناك، العدوان الهمجي واستهداف المدنيين والبنى التحتية وكل ما يشكل حياة وحركة، والسياسة الأخيرة في الحرب ضد المدنيين لاستثارتهم وعزلهم عن المقاومة وعزل المقاومة عنهم، اتبعها العدو بهمجية لا مثيل لها في عدوانه على لبنان عام 2006 حيث دمر معظم المساكن والمستشفيات واستهدف الحافلات والجسور والطرق العامة والكهرباء والبنية التحتية في لبنان لتحقيق ذاك الهدف، واستثار ساسة وأعلاماً وقوى خفية لهذا الغرض، ولكن كل ذلك لم ينجح في جعل الشعب اللبناني ولا سيما أبناء الجنوب والبقاع الذين دمرت بيوتهم وشردوا من أراضهم وتعرضوا للجوع والقتل يقف ضد المقاومة أو يتخلى عن دعمها، بل أدى على العكس من ذلك إلى اختيار خيارها ومصيرها والوقوف مع قائدها حسن نصر بوصفه صاحب وعد صادق ونصر مبين.. لقد اختار معظم شعب لبنان المقاومة وتحمل ثمن ذلك الاختيار المشرف وتحمل عن الأمة وفي سبيل قضيتها، ولكل خيار قيمة وثمن ولكل زمن رجال. وقد تعزز خيار المقاومة بتتويج انتصار تموز/آب 2006 بإطلاق سراح الأسرى، ذلك الفعل المجيد الذي جعل ساسة كانوا ضد المقاومة في لبنان يعيدون النظر بمواقفهم ليكسبوا الشعب. في الكيان الصهيوني، وفي أوساط اليهود، لا سيما يهود الولاياتالمتحدة الأميركية على الخصوص ومن يواليهم ويناصرهم ويأتمر بأمرهم ويعمل على دولة عبرية نقية عاصمتها القدس الموحدة.. يهددون بأنهم القوة الأعظم، وأنهم سوف يستعيدون قوة الردع المفقودة ويمنعون أيّة دولة في المنطقة من أن تكون ذات قوة تُذكَر، بَلْهَ ذات قدرة على أن تنازعهم القوة والنفوذ والهيمنة، ويكون لها دور إقليمي ورأي يؤخذ بالاعتبار أو صوت يسمع في ساحات صنع القرارات الهامة والمصيرية؟ هناك ينفخون الضفدع ونحن نخفي الفيل، هناك يصنعون القوة ونحن نضعفها ونبشر بعدم جدواها.. ونفعل أشياء أخرى.. نتدافع لنكون في صف تحالف رايس المعتدل ضد فريق من أبناء الأمة العربية والإسلامية ممن يسميهم العدو الصهيوني وحلفاؤه "محور المتطرفين"، ونتراكض لنكون في تحالف ساركوزي المعتل الذي يهدف إلى تأصيل المحتل الصهيوني وجعله جزءاً من النسيج السكاني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والأمني للمنطقة العربية، ويوظفنا لنكون في خدمة المصالح المشتركة لاستعمار قديم جديد متجدد، نتوهم أنه زال وأننا ندفعه لتقديم تعويضات عن استعماره وجرائمه بينما هو يستثمر في مشاريع ذات ريعية مالية وسياسية وفي مشاريع اقتصادية وسياسات بعيدة الأمد تخدمه وتخدم المشروع الصهيوني الذي يتبناه.. ونهمل كل رؤية لذاتنا وإمكانياتنا في إطار استقلال عربي ناجز شامل محمي بالشعب والوعي والحرية والإرادة السياسية والجماهيرية الصادقة، يعمل على حماية المصالح العربية وتحرير الأرض والإرادة والقرار والمصالح والإنسان، واستثمار الثروة والطاقة العربيتين في مشاريع النهضة والتحرير والتنمية بأشكالها المتعددة. إن قوة العدو ناتجة بالدرجة الأولى عن ضعفنا وتآكلنا من الداخل، وتضاد مواقفنا وتناحرنا، وانعدام الرؤية الوطنية والقومية بصورة مثيرة للأسى والأسف والدهشة.. إننا نتمسك بتخلف وجهل نأخذهما على أنفسنا وأمتنا، وبقدرات متدنية تصوغ لنا مستقبلنا، نفعل ذلك، أو يفعل ذلك من يفعله حتى لا تنكشف ضحالة قدرات رسميين ومسؤولين، ونَقبل الوشاية الرخيصة وغياب المعيار السليم ونُقبل عليهما، ونغيّب القدرات والإمكانيات في زوابع يثيرها الانتهازيون واللصوص، ونبتعد عن كل ما يبني الأسس السليمة القوية لنهضة عربية متينة، ونسخر من الفكر القومي والعمل القومي وخيارات المقاوَمة والتحرير والمبدئية، ومن أشكال الاتحاد والوحدة والتضامن.. إلخ بينما نبارك اتحادات مشبوهة تخدم العدو أكثر مما تخدمنا، نعطي ظهورنا لأي شكل من أشكال الاتحاد يقوينا ونهرول إلى صيغ يضعها الاستعمار لخدمة مشاريعه والصهيونية التي يحتضنها ويدعمها ويغذيها بكل أسباب القوة.؟. لقد ابتلعنا وهماً كبيراً ما زال يفتك بأعماقنا وشخصيتنا وقدراتنا، وبددنا مصادر الثروة والقوة والإرادة، وأخذت عناصر منا تعمل على أن نبتلع المزيد من الوهم وتجعله يتضخم في داخلنا أكثر وأكثر.. فقدنا الإيمان بقوة حقنا وبإمكانية استعادته بالقوة، وبامتلاك القوة ذاته في الوقت الذي يحتل الأقوياء بلداناً وعقولاً وقرارات في وطننا العربي، وقدمنا التنازل المهين عن الحق والكرامة لأن التنازل واقعية وخيار أفضل يأخذ به العقلاء، وساهمنا في تشويه صورة مقاومتنا وممانعتنا ونضالنا وهويتنا وعقيدتنا، وأخذنا نجرح قلوبنا بسكاكين الجزارين الحادة المشهرة علينا، وندمي أرواحنا ونلوث وعينا بكلام المحتلين والعملاء والمستعمِرين.. وصورنا وطننا الكبير سجناً أكبر وسمحنا لمن يزور صورة هذا الوطن أو يشوهها، مسؤولاً كان أم غير مسؤول، بالاستمرار في أداء ضحل مجرد من الرؤية والقدرة والمبدئية والمعرفة والمصداقية، وسكتنا على فساد وإفساد وأمراض أخرى ووقفنا منها موقف "المحايد السلبي" الذي "يستحق الإعجاب" لما ملك وما امتلك وما اختار؟ إن وطننا ليس الصحراء ولا الجحيم ولكن هناك من يريده أن يكون كذلك.. وشعبنا ليس اللاشيء ولكن هناك من يغيّبه ويغيب تضحياته وبطولاته ويريده اللاشيء. والعدو ليس المنقذ وليس لديه الجنة التي ننتظر أن تفتح لنا أبوابها لنهرب من الجحيم، كما أننا لسنا في الجحيم الذي ننتظر أن تفتح أبوابه لنهرب منه على الرغم مما يفعله معنيون ليكون الجحيم.. نحن في أوطان وأوضاع تحتاج لأبنائها لينقذوها مما هي فيه وليوظفوا طاقاتها وثرواتها وإمكانياتها الهائلة في عملية استنقاذها وإيقاظها، ولن ينقذها سواهم.. وهي الجنة عندما يريدون بإرادة حرة وينفذون خططاً وقرارات بمسؤولية ووعي وانتماء حر واع مسؤول. إن علينا أن نقارب الأسئلة الصعبة، الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، بعلم ومسؤولية وشجاعة، لكي نقف على أرض صلبة نظرياً وعملياً حتى لا نحفر قبور أبنائنا بأيدينا وندفن معهم مستقبلنا.. والأسئلة الصعبة كثيرة، ولنبدأ بسؤال: هل ادعاءات العدو صحيحة بصورة مطلقة ودائمة وربما أبدية كما يصور قادته وحلفاؤه وعملاؤه الذين يستَنَبتون بين لحمنا وعظمنا ويفتكون بنا ليل نهار؟ وهل نحن بلا فائدة ولا أمل ولا مستقبل؟ إن المؤشرات الواقعية ترسم لوحة مغايرة للعدو، لوحة فيها انهيار أخلاقي يأتي على جذور الادعاءات الكبيرة بامتلاك أخلاق، وتفسخ اجتماعي، وانصراف أجيال عن المواجهة، وتشنج عصابي في استخدام القوة ضد المقيدين والمعصوبي الأعين والمدنيين العزل والأسرى والمعتقلين والمحاصرين، ووحشية بلا حدود هي ردة فعل المجرم الخائف على ذاته ومن ذاته، وتكديس لكل أنواع الأسلحة للعدوان، وحشد مستمر لقوة الحلفاء والأصدقاء والعملاء وراء ادعاءات وشعارات وسياسات غير إنسانية ولا عادلة ولن يكتب لها البقاء، فالعنصرية و"الأبارتهايد" والطغيان والدول الإرهابية إلى زوال.. وكل ذلك يشير فيما يشير إليه إلى انكسار داخلي عميق وهزيمة روحية في كيان العدو وفكره ومشروعه، وإلى انعدام ثقة بقوة الجيش الصهيوني على حماية مدنييه في مواجهات قادمة مع المقاومة وليس مع الدول العربية "لا سمح الله؟"، وإلى خوف من تصاعد الروح المعنوية لدى المقاومة ومن يناصرها ويختار خياراتها ليس في لبنان وفلسطين والعراق فقط بل في كل أنحاء الوطن العربي. إن العدو ومشروعه في مأزق على الرغم من القوة والأنصار والتمويل والتغطية الإعلامية الهائلة، إنه في مأزق ونحن لا نستغل ذلك لنكوّن رؤية إيجابية ونستثمر في الواقعية التفاؤلية التي نملك مقوماتها ومعطياتها وقدراتها وأدواتها وعناصرها، ولا نبلور إستراتيجية مضادة، ولا نعمل على امتلاك قوة ذاتية شاملة محررة ومستقلة، بل نصنع لأنفسنا المآزق ونسهل على عدونا الخروج من مآزقه ونمده أحياناً بما يساعد على الإنقاذ.. ونغض الطرف عمّن يخرّب من داخل البيت العربي، وعمن يفسد الأجيال والإرادات والرؤى العربية، وعمّن يريد أن يمتلك الشعب بضاعةً ويلغي إرادته صناعةً، ويبقيه رصيداً شخصياً وورقة في المناسبات، وعمّن ينهش الأمة في وجدانها وإرادتها وحقوقها ليضعف ثقتها بنفسها وبمستقبلها ومقاومتها وبإمكانية أن تنهض وأن تكون، سواء أكان ذلك عن تدبير وتقدير وتصميم منه وتوظيف له، أم كان عن جهل وقصور وضحالة تكوين وفساد منطق وأساليب وصول وبقاء وحضور فاسدة ومفسدة. ويزيد في الطين بِلّة رسميون و"قادة" وأزلام يسخّرون البلاد والعباد لخدمة صورتهم ومصالحهم ودوائرهم الضيقة جداً ولبقائهم في سدة الحكم في حين تعاني الشعوب ما تعانيه.. ومن المؤسف أن القادرين منهم يختارون أن يكونوا زعماء قطاعات صغيرة وحارات ضيقة ويهملون الطرق العريضة لزعامة الأمة وقيادتها إلى مستقبل هي أهل له وتملك مقومات الوصول إليه. هناك منطقان في خدمة واحد، ونحن، فيما يبدو لي، نعيش هذه الحالة.