الكلمة الافتتاحية، للسيد عبد العزيز بلخادم، يوم الأحد 24 أوت الماضي، في أشغال الجامعة الصيفية، التي نظمها حزب جبهة التحرير الوطني، بجامعة البليدة، أثارت ردود فعل لدى بعض الأوساط الإعلامية، أتاحت لنا، الوقوف على مدى الحقد الدفين، والكراهية الشديدة، والعداء المستحكم، الذي يكنه بعض الجزائريين، للغة العربية، ودرجة الحقد، المعبر عنها، من طرفهم، بهذه المناسبة، تترجم ظاهرة مرضية، تتجاوز مستويات العشق والوله للغة الفرنسية، والرغبة في بقاء إشعاعها، واستمرارها، مسيطرة ومهيمنة، على كل مظاهر ونشاطات، الحياة العامة في الجزائر، والتوجس من تواريها عن المشهد الوطني، لتصل إلى مستويات الاستعداد للتضحية، والاستماتة في سبيلها، والدفاع عنها، ونصرتها في كل الظروف والأحوال. إن الحدة والشراسة، البارزتان في هذه المناسبة، لا يمكن تفسيرهما، إلا بخلفيات ودواعي إيديولوجية عميقة، تغذيها عوامل، قد تكون تاريخية، وقد تكون سياسية، وقد تعود لأسباب أخرى خفية أجهلها، إلا أن تكون ثقافية أو مصلحية. شخصيا، قضيت روحا معتبرا من عمري، كنت أعتقد، أن استعمال اللغة الفرنسية والتشبث بها، مرده أسباب موضوعية، ترتبط بكون بعض الجزائريين المتعلمين، أيام الاستدمار في المدارس الفرنسية، حرمهم الاحتلال الغاشم من تعلم لغتهم الوطنية، وأن حب هؤلاء وتعلقهم بالعربية، باعتبارها أهم مكون، في تركيبة الشخصية الوطنية، أمر لا يرقى إليه أي شك. وكنت ألتمس مختلف الأعذار و المسوغات لهؤلاء، لما يستعملون لغة فرنسا، وكثيرا منهم كانوا يتذرعون بجهلهم للغتهم الأم، نتيجة الحرمان الذي أشرت إليه، لكن ما بال هؤلاء الذين ينفثون سمومهم، ويصبون جام حقدهم على اللغة العربية في شكل وصورة الموتورين، الموغرة صدورهم بالعداوة، المشحونة قلوبهم بالبغضاء وكأن لهم ثأرا يودون أخذه، وحسابا يرغبون في تصفيته، وهم ينتمون إلى جيل آخر، غير الجيل المحروم من تعلم لغته، بسبب الاستعمار الفرنسي، ولعل بعضهم من خريجي المدرسة الأساسية والجامعة الجزائرية، وتعلموا اللغة العربية، وتمكنوا منها، لكنهم يمقتونها شديد المقت. أقول لهؤلاء من باب التذكير فقط، أن أهم عنصر من عناصر الشخصية الوطنية هو اللغة، والعربية في بلادنا شكلت على مدى 14 قرنا أحد مكونات الهوية الوطنية، وبعدا أساسيا في الشخصية الجزائرية، ولعلمهم فإن الاحتلال الفرنسي، بمجرد أن وطئت أقدامه مدينة الجزائر في سنة 1830، وضع نصب عينيه، هدفين رئيسيين هما: القضاء على اللغة العربية ومحوها، والتضييق على الدين الإسلامي ومحاربته، بتشجيع التبشير، ونشر التنصير، لأن الغزاة الفرنسيين، كانوا موقنين بأن القضاء على الإسلام والعربية، أقوى أثرا، وأشد فتكا، من الاستيلاء على الأراضي ونهبها، وهكذا فإنه قبل أن تمتد أيديه إلى متيجة والمدية، وفي الشهور الأولى شرع في شن حرب شعواء على الإسلام والعربية، بتحويل المساجد إلى كنائس، وغلق المدارس، ونفي أساتذتها، وتشريد شيوخها، ومصادرة الأملاك الوقفية، التي تكون أهم مصدر لتمويل التعليم، لتضمن تدمير الشخصية الوطنية، وتمسخ الجزائريين مسخا، لقولبتهم وصياغتهم، في شكل خلق آخر، كما يرغب الاحتلال ويريد. وبالنظر لأهمية ومكانة اللغة، كعنصر جوهري في مكونات الهوية الوطنية، فقد احتلت العربية الدرجة الأولى، وشكلت أحد الأهداف الأساسية في برنامج الحركة الوطنية ومطالبها، بدءا من مطلع القرن العشرين، سواء في برنامج نجم شمال إفريقيا، أو في برنامج حزب الشعب، أو جمعية العلماء، أوحركة انتصار الحريات الديمقراطية، أو في مواثيق وأدبيات جبهة التحرير الوطني. إن الأجيال الأولى من مناضلي الحركة الوطنية، وإن كانت فرنسا قد حرمتهم من تعلم لغتهم الوطنية، إلا أنهم وظفوا اللغة الفرنسية، التي تعلموها في مدارس الاحتلال، لنصرة العربية والدفاع عنها، لأن حبهم وتعلقهم بالجزائر، كان قويا وكبيرا، والوطنية في منظورهم، وحدة واحدة، وكل لا يتجزأ، وأركانها الركينة، هي الأرض والإسلام والعربية، وجميعها، تبلور معا هوية الأمة الجزائرية، وتطبع وتميز شخصيتها بين الأمم والشعوب، وكانوا رحمهم الله، عندما يكونون في محافل أو منابر ما، ويعجزون عن التعبير بلغتهم الوطنية، يذرفون الدموع، حسرة وألما لفقدانهم لغتهم الأصلية، أما هؤلاء القوم فقد تعلموا في مدارس الجزائر، وتمكنوا من العربية، ولم يمنعهم أحد من الكتابة باللغة الفرنسية والنشر بها، رغم أن قانون الإعلان الساري المفعول، يحظر عليهم نشر صحائفهم الموجهة للجمهور الجزائري باللغة الأجنبية، لكنهم وعكس الأسلاف الأماجد، أضحوا من ألد الخصوم، يوظفون الفرنسية لمحاربة العربية والنيل منها والتهجم عليها، دون حياء أو خجل، لدرجة أنه لو طلب من الفرنسيين، ولو كانوا من الأقدام السوداء، أن يكتبوا ضد اللغة العربية، ما بلغت كتابتهم شدة الوطء التي كتب بها بعض الجزائريين في هذه الأيام، في بعض الصحف المفرنسة، التي تصدر في الجزائر. عجيب أمر هؤلاء الرهط، إن سألتهم عن سر حقدهم، قالوا لك إن العربية لغة متخلفة وهي تؤدي بنا إلى التقهقر والجهل، وأن العربية والإسلام، هما أسباب الكوارث والبلايا التي حلت بالبلاد، لكن عندما تواجههم بأن جميع دواليب الدولة، ومرافقها الأساسية، ومراكزها الحساسة، تدار وتسير بالفرنسية، وما جريرة وذنب العربية، وهي غريبة بعيدة عن إدارة البنوك، وتسيير المؤسسات الاقتصادية، وأن الصفقات الضخمة لا تبرم بها، وأن ألاف الملايير المختلسة والمهربة، تسرق وتنهب من هذه المؤسسات، التي تسير بالفرنسية، لا يردون عليك بأي جواب شاف، أو رد كاف، والأدهى من ذلك، إن حاججتهم بأنه لا أحد ضد العلم والتطور ومعرفة اللغات الأجنبية، والسيطرة على مختلف التكنولوجيات المتطورة، وأوضحت لهم بأن الانجليزية هي لغة العولمة والعصرنة والأنترنيت والحداثة، قالوا لك إن هذه اللغة، غريبة عن شعبنا، بعيدة عن مجتمعنا، ويصعب علينا تعميم تعليمها، والتحكم فيها، فالفرنسية أليق بنا، لأن مواطنينا ألفوها، واعتادوا استعمالها، فلماذا نستبدلها ونرهق أنفسنا بالانجليزية؟ ومهما أتيت بحجج وأقمت من براهين، فإنهم لن يذعنوا للحق، شأنهم في هذا، شأن بني إسرائيل، مع نبي الله موسى عليه السلام. تحريت، وبحثت، واستقصيت، فأعياني البحث وأرهقني الاستقصاء، وتذكرت مقولة الجنرال دوغول المدونة في مذكراته وهو يتحدث عن الدولة الجزائرية المستقلة، في إطار التعاون مع فرنسا، التي ستنبثق عن استفتاء 01 جويلية 1962، حسبما كان يتصورها "وهل تظنون، أننا سنتخلى عنهم، ونتركهم، بعيدين عن أعيننا؟ كلا، إنهم يتكلمون لغتنا، ويقاسموننا ثقافتنا". إن مواقف أولئك الرهط اعتدناها وليست بجديدة عنا، فهي كما يقول المثل الشعبي كالذبابة لا تقتل، لكنها توجع القلب فقط، أما ما يحز في النفس ويوجع القلب حقا، فهو تخاذل المسترزقين باللغة العربية، المنتفعين منها، من الذين يملكون إمبراطوريات إعلامية بفضلها، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، ولا تكاد تسمع لهم ركزا، واحنوا رؤوسهم، وطأطئوا هاماتهم، وآثروا السلامة، ونسوا أنهم يرتزقون بالعربية، بفضل تضحيات ونضال أجيال من المناضلين، الذين كافحوا ونافحوا لرفع لواء العربية عاليا في هذه البلاد، ألا يستحون من أن تظل أصوات المناضلين الطاهر وطار، وعثمان سعدي، والأمين الزاوي، والدكتور محمد العربي ولد خليفة، هي وحدها المدوية المنافحة عن العربية في سنة 2008، مثلما كان الحال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وتبقى جريدة صوت الأحرار وحدها، الصوت المكافح الصادح، ضمن أرماده من الصحف المعربة، الهامدة ، الخانعة، الخامدة، وتظل جبهة التحرير وحدها، كما كانت الحزب الوحيد، الذي يحمي حمى العربية، ويرعاها، من بين جمع مؤنث سالم، من حزيبات، يدعي بعضها الانتماء للتيار الوطني والإسلامي، ظلت صامتة صمت الصم البكم، ساكتة سكوت القبور، ساكنة سكون مياه البحر الميت، فتبا لأسوء خلف، لخير سلف. وأما أنت يا جريدتنا صوت الأحرار الغراء، فواصلي الذود عن حياض لغة الضاد، وارفعي عقيرة بالحق وحدك في الساحة، فالحق يبقى حقا ولا يقاس بالعدد، فقد وقفت جماعة قريش كلها إلا القليل، في بدء رسالة الإسلام، ضد محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه هو الذي انتصر، لأنه كان على الحق، رغم قلة عدد أتباعه، وانهزمت جماعة قريش رغم كثرتها، لأنها كانت على الباطل. أما اللغة العربية فلها رب يحميها، ولن تعدم أنصارا، وستظل مقيمة في هذه الديار، لا تريم ولا تبرح، ما دامت جبال الجزائر الشاهقة الشامخة، راسية لا تتزحزح.