كانوا يستلمون الطعام بعد نجاحهم في الوصول إلى الشاطئ الإيطالي حيث بداية "الجنّة".. وهناك كانت المفاجأة الصاعقة للإيطاليين المشرفين على عملية استقبال هذا العدد من المهاجرين الأفارقة، فقد اشترك عدد كبير من هؤلاء الضيوف "غير المرغوب فيهم" في كون رؤوس أصابعهم ملفوفة بقطع من القماش الأبيض. لم يطل الأمر على القوم حيث عُرف السبب الذي يفترض أن يزيد من العجب، فقد عمد الشباب الأفارقة إلى حرق رؤوس أصابع أيديهم لإخفاء بصماتهم ظنّا منهم أن في ذلك عصمة لهم من حملة الترحيل التي بدأتها إيطاليا ضد جميع المهاجرين الذين يحطون رحالهم حديثا على شواطئها الطويلة. السلطات الأمنية الإيطالية تسعى لإيجاد حل لهذا المأزق الذي أوقعها فيه "الاختراع الأفريقي" وليد الحاجة الماسّة إلى البقاء على أرض "الجنة" التي قطع أولئك المساكين آلاف الأميال من أجلها، وتحدوا الموت بعينه وهم يمتطون تلك القوارب البسيطة التجهيز ليجتازوا بها البحر المتوسط بأمواجه وحيتانه وخفر سواحله على الجهتين الجنوبية والشمالية، وبعد أن دفعوا مبالغ كبيرة لعصابات التهريب. قد تتمكن السلطات الإيطالية من التغلب على مشكلة البصمات التي تواجهها، وقد تتمكن من التغلب على مشاكل أخرى آنية، لكن المؤكد أن القريب المنظور لا يحمل بشرى "الحل النهائي" لمشكلة تدفق المهاجرين من الضفة الجنوبية نحو "شقيقتها" الشمالية، رغم المعاهدات والجهود والوعود والحشود الأمنية على الضفتين خاصة الجنوبية مصدر القلق لذلك الإنسان الشمالي الذي يريد أن ينام قرير العين ولا يسمع مجرد همسة تذمّر، فضلا عن كلمة أو جملة، من الإنسان الجنوبي. والمؤكد أيضا أن السلطات الإيطالية والأوروبية عموما مازالت تنظر إلى مشكلة الهجرة السرية من الجانب السطحي الظاهر منها فقط والمرتبط غالبا بمصالحها وهواجسها ومخاوفها المباشرة، دون النظر المعمق إلى جذور تلك الظاهرة والأسباب الحقيقية التي تقف وراءها والمعطيات الأولية التي أدت إليها، والتي يعود معظمها إلى قرون طويلة مضت. إن تلك المعطيات والجذور هي قصة الاستعمار الأوروبي لدول القارة الأفريقية وما صاحبه من مآسي وفظائع وتدمير منظم مدروس لإمكانيات الشعوب الأفريقية، واستغلال بشع جشع للثروات الطبيعية على ظاهر الأرض وباطنها، واستعباد للإنسان الإفريقي ظهر جليّا في شحن عشرات الملايين من الأفارقة وتسخيرهم لخدمة أراضي "الأوروبي المتحضر" وأطماعه الاقتصادية في أمريكا خاصة ومناطق أخرى من هذا العالم. وعندما خرج ذلك الاستعمار، أو أُخرج، لم يترك المكان نظيفا ولم يخلّف وراءه ما يسرّ عين الناظر، بل خطط لحروب وفتن دامت عشرات السنين وما زالت، فالحدود التي تركها بين الدول "المستقلة" كانت في أغلبها قنابل موقوتة. وحبّذا لو ترك ذلك الأوروبي القوم على حالهم بعد ذلك يحلّون عُقد الاستعمار بما تيسّر لديهم وينتظرون برء الجروح الغائرة على خرائط الدول ونفوس الناس؛ فقد أدمن ذلك "المتحضر" دعم أنظمة وحكومات تسير في ركابه وتخدم مصالحه بحذافيرها حتى لو كان في ذلك الموت الزٌؤام للعباد والسقوط التام للبلاد. وبعد عقود من "الاستقلال" صارت المعادلة العرجاء البائسة ظاهرة للعيان لا تخطئها عين "نصف مبصر" ولا يغفل عنها "ربع ذكي"، والمعادلة باختصار شديد هي أن القوم في الشمال يستأثرون بثمانين في المائة من الاقتصاد والإنتاج العالمي مع أنهم لا يمثلون سوى عشرين في المائة من سكان المعمورة، وفي المقابل يعيش ثمانون في المائة، وهم نحن سكان الجنوب، على عشرين في المائة فقط من دواليب وحركة ذلك الاقتصاد والإنتاج العالمي. لقد حافظ الإنسان الأوروبي على "الجحيم" في أفريقيا بكل الوسائل المتاحة لديه، وعبر عولمته الثقافية والإعلامية قدّم لشباب الجنوب جنته الأرضية في أزهي صورة وأبهى حلّة، فلما أراد الشباب الأفريقي المحروم تذوّق طعم "الجنة" وبذَل الغالي والنفيس ليصل إلى الضفة الشمالية؛ تعالت أصوات ساسة أوروبا وأطلقوا العنان لجميع صفارات الإنذار محذّرين شعوبهم من الخطر الداهم المحدق بجنتهم الوادعة. أعجبني كثيرا تصوير الروائي الفرنسي اللبناني (أمين معلوف) لنظرة أهل الشمال نحو غيرهم بعد أن استقر بهم الحال وغادروا عقود وسنوات الحروب والمآسي، حيث جاء في رواية "القرن الأول بعد بياتريس" على لسان أحد أبطال الرواية: "لم يكن الغرب دائما بالشكل الذي عرفتَه، هذه المساحة من السلام والعدالة، المكترثة لحقوق الإنسان والنساء والطبيعة. أنا الذي أكبرك بجيل، عرفتُ غربا مختلفا تماما. قل لنفسك إننا، طوال قرون عديدة، طفنا أرجاء المعمورة وشيّدنا الإمبراطوريات، ودمّرنا كل أشكال الحصار، وذبحنا الهنود في أمريكا، وحمّلنا الزنوج على متن السفن للعمل مكانهم، وقمنا بشنّ الحرب على الصينيين لإرغامهم على شراء الأفيون، أجل، لقد عصفنا بالعالم كالإعصار، وهو إعصار مفيد ولكنّه مدمر على الدوام. وهنا في مجتمعاتنا ماذا فعلنا؟ لقد أمعنّا في التناحر والتقاصف وإبادة بعضنا بعضا بالغاز السام، وبشراسة حتى منتصف القرن العشرين. وفي يوم من الأيام، إذ أُتخمنا وتعقّلنا أُنهكنا وشِخنا، جلسنا على أكثر مقعد وثير صارخين: والآن فليهدأ الجميع!. وكما ترى فالجميع لا يهدأون متى هدأنا".