إننا في كثير من الأحيان ما نخلط بين المفاهيم، أو ربما لا نتقن ضبطها في شكلها الصحيح، ولعل ثنائية مفهومي النقد والانتقاد على سبيل المثال، تعكس بشكل واضح ذلك الالتباس الذي يحصل أحيانا بالنسبة لبعضنا، فأنت مثلا عندما تنقد أمرا تبغي من وراء ذلك إصلاحا أو تحسينا لكنهه وجوهره كما مظهره، يحسبك الآخر أو آخرون قد أشهرت سيف الانتقاد في وجهه وسلطته على رقبته، زاعما أنك تقصد النيل منه لا أنك ترغب في تصحيح فكره إذا انحرف، وهو في ذلك غيرُ مدرك لطبيعة الأشياء لتسرعِه في اتهام الآخرين بغير وجه حق، فهو حينذاك يخطئ بسلوكه ذاك في حقك وحق غيرك بل حتى في حق نفسه، وبدل أن يسعى لتدارك ما رآه ناصحُه من خلل أو زلل، تجده يصر في عناده ويكابر دونما حاجة إلى ذلك، لا لأنه يعتقد بأنه يشق سبيله في الاتجاه الصائب، ولكنه يقدم على ذلك استجابة لنداء الأنا التي لا يخمد بركانها، إن أحست بنقيصة تُرمى بها، حتى لو كان ما قصده الآخر هو النقد فعلا وليس الانتقاد، أي بمعنى آخر أنه كان يسعى إلى إصلاح وليس إفساد... إنني أقول هذا الأمر تبيانا لما أحسبه جزءا من مشكلتنا كأمة تائهة، لا تدري ما السبيل إلى أن تستعيد قوتها وهيبتها بل وحتى وجودها أيضا، وإني قد نظرت إلى حالنا في هذا الكون الرحب الذي تتصارع فيه وعليه الأمم كالثيران الهائجة تتناطح طلبا للحياة والبقاء، وما أصعب تلك الحياة إن كان ما يحكمها أن البقاء للأصلح والأقوى، وهل نحن في معادلة الحياة والموت هذه إلا أشبهَ بالأموات وأشبهَ بالأحياء أيضا، كأصحاب النار لا يموتون إلا موتتهم الأولى والعذاب محيط بهم من كل جانب! ورأيت هذه الأمة في أناسها عامتهم وخاصتهم: إما جالد للذات الجماعية معاتب لها على ما آلت إليه من سقوط حر إلى أسفل السافلين، لا يسعه إلا رثاءَ أهل تلك الديار والبكاءَ على أطلالها، لاعتقاده أن إسماع الموتى يستحيل، ناسيا أن الله قادر على إحياء من في القبور، وإما زاعم أن الخلاص يكمن في محاكاة الغرب وتقليده والتشبه به في كل صغيرة وكبيرة، حتى لو دخل أحدهم جحر الضب لدخله وهو مستيقن أن مَثله مثلُ الجمل أن يلج سم الخياط! وهو بذلك يريد مسخا لعقيدة أمته وتراثها وثقافتها وقيمها وسر وجودها... ثمة مسألة تحضرني هنا في حديثي عن النقد والانتقاد، طالما كسرت حاجز الصمت الذي أقامته مياه أفكاري الراكدة ركود الغارق في الإمعان في مدركات الأشياء، فأنت عادة ما تسمع قائلا يقول بملء فيه: "انتقدْ (وليس انقد!) نقدا بناءا" أو "هذا نقدٌ بناء"، وإني سائل نفسي وإياكم: هل كان النقد يوما هداما؟! إلا إذا كنا نرى في النقد انتقادا وفي الانتقاد نقدا دون أن نضع حدودا فاصلة بين هذا وذاك! (واعلم أيها القارئ الكريم أني ها هنا في هذا المقام، أحدث نفسي وإياكم عن النقد السليم القويم، لا عن الانتقاد الذي يكون هو غاية نفسه ومنتهى مقصَدِه)، ألا يعكس هذا بحق تداخلا في المفاهيم التي يكون فيها النقد أشبه بالانتقاد عندهم، ما لم نضف إليه تلك الكلمة (السحرية في نظر البعض) التي تفيد بأننا نبغي أن يستحيل ما ننقده إلى بناء قويم لا أن نهدم ما يتبادر إلى الذهن أنه كان كذلك بانتقاد "طائش"؟ أعتقد أن هذا الأمر يعكس إلى حد بعيد أننا في أمس الحاجة إلى "فقه نقد الذات" أو "ثقافة نقد الذات" (سمه ما شئت ما دمتَ أدركت المعنى دون أن يُحدث المصطلحان لديك التباسا)، فذاك يكاد يكون غائبا أو مغيبا في جميع الأحوال وبأشكال متعددة، لعلك عاينت بعضا منها أو كلها، والحال أن في غياب كل من الناقد الفاحص لواقع الأمة الذي إذا حدّث وتكلم أبان وأفصح الكلام، والمستمعِ الذي إذا سمع أذعن واستكان وأنصت باهتمام (وتلك من أمارات المجادلة بالتي هي أحسن)، كان الوعيُ الجماعي مشتتا لا يكاد أفراده يجتمعون على رأي جامع، أو يصب في اتجاه واحد في أحسن الأحوال، عندما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية أو مسائل يفترض فيها أن يتحد الموقف الجماعي للأمة إزاءها باعتبارها نقاط تلاق لا بؤر اختلاف أو خلاف. أعتقد، اعتقاد الفرد الذي يمثل ذرة في مجتمع كامل أو أمة متكاملة، أن النقد والحوار البناء الفاعلين داخل الكيان الواحد، هما ثنائية إيجابية إن اجتمع مكوناها وتضافرا في مكان وزمان ما، كان لها كبير الأثر في الرقي بفكر الجماعة أو الكتلة البشرية أيا كانت، ما دامت لا تخجل من نقد الذات نقدا صائبا، ولا تنظر إلى محاولات إصلاح الذات، إن هي فسدت أو فسد عضو منها، نظرة المتوجس خيفة منها كأنها سهام أو خناجر تغدر بتلك الذات وتُغرس في قلبها، اللهم إلا إن كانت لا تأمن شرا يأتيها من أبنائها الذين حملتهم في أحشائها كرها على كره، وولدتهم بعد مخاض عسير فأخرجتهم إلى هذه الدنيا مبصرين بأعينهم آيات الجمال الإلهي فيها، وأرضعتهم من تراثها وثقافتها وحضارتها لبنا سائغا حلو المذاق بالغ التأديب والتهذيب لأخلاقهم، وهنا إن كانت أي أمة تخشى أبناءها خشيتها من أعدائها والمتربصين بها دائرة السوء، جاز لنا ولأمثالنا من ذراتها المتناثرة هنا وهناك أن نتساءل إن كانت تلك الأمة أما رؤوما حنونا عطوفا على أبنائها؟ وهل أحسنت تربيتهم وأرضعتهم حليبها أم قدمت لهم حليبا اصطناعيا مستوردا في علب جاهزة؟ لا شك أنكم أدركتم أي إجابة تناسب كل معطى، وإذا تعاملنا مع المجتمع أو الأمة (بصفتها كيانا أكبر وجامع) كما ننظر إلى الكائن البشري، وكما هي الأسرة تلك الخلية الأساسية في بناء ذلك التجمع الإنساني، وصلنا إلى نتيجة منطقية وهي أن أي أمة لا يمكنها أن تحصد من أبنائها إلا ما زرعت فيهم، تماما كما هي الحال مع الأم التي لا تخرج من رحمها رجلا إلا وكانت قد ثابرت واجتهدت في أن تمنح طفلها الذي ولدت "فيتامين الرجولة"، ولذلك قيل: وراء كل رجل عظيم امرأة، وأنت ترى أن القائل لم يجر على لسانه عبارة " كل امرأة وراء رجل عظيم" وأحسب أنه لذاك السبب الذي أشرت إليه من قبل، وأنت تعلم أن عظماء الرجال قلة بين الرجال، وأن هؤلاء أيضا يمثلون قلة بين معشر الذكران، والسلام على من اتبع الهدى...