على الصعيد السياسي يكون حزب الله اللبناني قد حصد تأييد الشارع العربي الإسلامي بشكل كبير، يذكرنا بذلك الصيت الذي اشتهر به عبد الناصر في زمن التهديد العربي بإلقاء إسرائيل في البحر. ذلك لأن حزب الله كان الكيان السياسي والعسكري الوحيد الذي حقق الانتصار على إسرائيل في زمن الهرولة والتطبيع والمهانة العربية، لقد رأى الناس في حزب الله ونصر الله تجلي الإرادة الشعبية في نفض غبار الاستكانة، والانتفاضة في وجه أنظمة الهزيمة والاستسلام. لقد ساد الاعتقاد في أوساط الجماهير العربية أن حزب الله قادر على تحقيق ما فشلت في تحقيقه الجيوش العربية وحكامها، فاعتبروه أداة فعالة للخروج من أزمة الهزيمة، وحل لعقدة الخوف من إسرائيل، وبديل أفضل لخيارات الإذعان التي تشهرها الأنظمة بحجة أنها أقصى ما هو متاح وفي متناول اليد، أو ما تسمح به التوازنات الدولية. لكنه على الصعيد الديني لم يحقق حزب الله نفس الانتصار الذي حققه سياسيا وعسكريا، وقد خذلته ممارسات الشيعة في العراق وإيران ليس فقط بتزكية الاحتلال الأمريكي دينيا بفتاوى تحت الطلب، ولكن أيضا بالتطهير العرقي والقتل على الهوية في حق السنة والتمادي في العبث بالدين والتمكين للاعتقادات الفاسدة التي ذكرت الجميع بمناكر الخوارج وجريمة أبي لؤلؤة. دولة حقيقية داخل دولة افتراضية كذلك في لبنان لم يعد الإجماع حاصل على اعتبار حزب الله جزء من الحل بقدر ما أصبح يمثل في أعين الكثير من اللبنانيين معضلة حقيقية، مستعصية عن الحل خاصة وأنه تمكن من قدرات جعلته يناقر الدولة في أهم وظيفة من وظائفها وأكثرها حساسية وهي الوظيفة الأمنية في حماية الأشخاص والممتلكات. وفي غياب مقومات دولة حقيقية أصبح حزب الله يمثل دولة داخل دولة مفترضة في لبنان، لا تقوى مؤسسات الدولة الهشة بما فيها الجيش على فرض سلطتها عليه، أو إخضاعه لقوانينها، له قوانينه، ومربعاته الأمنية ومناطقه المحرمة على الجميع. غير أن الحساسية التي ينظر بها الشارع العربي والإسلامي إلى حزب الله من الناحية الدينة، لم تنعكس إيجابيا على موقفه السياسي من السنة في لبنان رغم التعاطف والانحياز الديني الذي يحظى به هذا التيار من لدن هذا الشارع. السنة في لبنان خذلتهم مواقف حلفائهم من حزب الله التي اتسمت بالعدائية والخيانة، والانحياز إلى إسرائيل والادعاء بأن حرب الشرف التي خاضها حزب الله كانت مغامرة يتحمل مسؤوليتها لوحده، وشاء الله أن تكون "المغامرة" نصر مبين. الانتصار على إسرائيل أم على الأغلبية؟ّ أما الضربة القاضية التي يكون تلقاها السنة في لبنان رغم أن مواقفهم من المقاومة وحزب الله لم تساير مواقف حلفائهم ممن يسمون بالمعتدلين، وظلوا يؤيدون المقاومة سياسيا وعسكريا، هي عندما أفصح حلفاؤهم عن موقف غريب أكسبهم عداء الجميع، مفاده أن إيران وحزب الله أخطر من إسرائيل وأنهما هما العدوان الحقيقيان وليس إسرائيل. لقد وجد الرأي العام العربي والإسلامي ومعظمه سني المذهب نفسه أمام أنظمة سنية تخون قضيته، تطيع "بوشها"، وتدعوا إلى الاستسلام والتطبيع مع العدو وتغيير معسكر العداوة من إسرائيل نحو إيران وحزب الله، وأنظمة شيعية (وعلوية) ترفع راية المقاومة والدفاع عن الشرف والمقدسات الإسلامية، ومحاربة العدو الذي اغتصب الأرض وداس على العرض، وترفع هامة العربي والمسلم في وجه الاحتلال الصهيوني، والغطرسة الأمريكية. هذه المعادلة الغريبة بمتناقضاتها هي التي أفقدت موقف الشارع حماسته وفعاليته، وكان ضحيتها الأولى والأخيرة دينيا وسياسيا هم السنة في لبنان أو "غالبيتهم"، فقد كسرت شوكتهم، وأضعفت حجتهم، وجعلتهم لقمة سائغة في متناول حزب الله وجبروته، الذي يبدو أنه لم يعرف كيف يستثمر انتصاره على إسرائيل لبنانيا، فاعتبر انتصاره على إسرائيل وكأنه انتصار على لبنان بسنته ومسيحييه، فطغى وتجبر في بيروت وأصبح يتمرجل على الجميع. وعليه لقد أصبح حزب الله في لبنان مشكلة كبيرة تستعصي على الحل، لكنه لا يزال في نفس الوقت يتمتع بكل ما يؤهله ليصبح أداة للحل والتسوية اللبنانية، من رصيد سياسي وقدرات عسكرية، واعتدال لدى الكثير من رموزه وعلى رأسهم زعيمه حسن نصر الله، وبعض مشايخه ومشايخ الشيعة أو ما يعرفون بالمرجعيات كالشيخ فضل الله. الشيعة إخوة مهما طغوا وأفسدوا وحتى السُنيين لا يزال بمقدورهم تصحيح الصورة واسترجاع دورهم المحوري في لبنان، ولن يتأتى كل ذلك ما لم يصحح كل أخطاؤه. فحزب الله والشيعة في لبنان أو في إيران وحتى في العراق، ومهما كانت مخاطرهم على الإسلام، فإنها ليست أخطر من اليهود وإسرائيل. حقيقة أن الشيعة يفسدون الدين ويشرعون من الممارسات ما لم ينزل به الله من سلطان. ويفتون بما هو خروج عن التعاليم الإسلامية واقتراب من الإسرائيليات، لكن ذلك لا يمكن اتخاذه ذريعة لموالاة اليهود والنصارى من دون المسلمين وإن كانوا شيعة. فالشيعة إذن هم خطر على الإسلام داخل دار الإسلام، أما خارجها فلا يمكن إلا إن يكونوا إخوة لكل المسلمين. كما أن الانتصار الذي حققه حزب الله على إسرائيل والتأييد الشعبي الذي يحظى به من لدن الرأي العام العربي والإسلامي، لا يجب استثماره لبنانيا لإلغاء الدولة في لبنان والسيطرة على كل الرفقاء، والتجبر على الناس في بيروت والجبل وطرابلس... وسنة لبنان وإن خذلتهم مواقف حلفائهم، ولم يتمكنوا من القوة التي تمكن منها حزب الله فإن هذا لا يمكن أن يتخذ حجة للانتقام منهم، وإقصائهم، وممارسة حملة قتل على الهوية في حقهم، أو تطهير عرقي. فالسنة في لبنان هم صمام الأمان والمحور الذي يجمع بين كل اللبنانيين بمختلف طوائفهم بفضل ما يتمتعون به من وسطية وحكمة وقبول بالآخر وإن تراجعت هذه الخصائص بعض الشيء بسبب نقص التجربة لدى زعماء تيار الأغلبية، فالسنة ليسوا سعد الحريري فقط، ولا يجب محاسبتهم على مواقف حلفائهم من العواصم العربية. إن تاريخ لبنان مفعم بالتجارب المريرة التي تؤكد عبرها أن خلاصه في تعايش أبنائه في حب ووئام واحترام، وبأن كل محاولة لطرف ما للتجبر والطغيان على الآخرين أو الإستقواء بأي جهة كانت مآلها الفشل والمزيد من الدماء والدمار والدموع، يكون الرابح فيها أكبر الخاسرين. والحرب الأهلية الأخيرة ليست بعيدة وجراحها لم تلتئم بعد وهذا ما يجب أن يبقى حاضرا في ذاكرة كل الفرقاء اللبنانيين، وعلى رأسهم حزب الله الذي عود الجميع بالحكمة والبصيرة، والتصويب حيث يجب التصويب.