تلقت جهود التقريب بين السنة والشيعة ضربة قاضية بعد الجدل الذي أثارته تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي التي أدلى بها لجريدة المصري اليوم وحذر فيها من خطر الاختراق الشيعي للمجتمعات السنية، ولم تكن الردود التي جاءت بعد ذلك تشير إلى حوار حول الأفكار والعقائد والمسائل الفقهية بل كانت السياسة هي الطاغية ما قاله القرضاوي في الجريدة المصرية لم يكن جديدا، فقد تحدث عن محاولات اختراق الشيعة للمجتمعات السنية ومنذ سنوات كان ينبه إلى هذه المسألة، وأكثر من هذا فقد اعتبر أن التقريب بين الشيعة والسنة لا يمكن أن ينجح إلا بالتزام كل طرف بعدم نشر مذهبه في البلاد التي تتبع مذهبا آخر، وما ذكره مجددا عن بعض المسائل العقدية مثل تحريف القرآن والإمامة وعصمة الأئمة وسب الصحابة هي مسائل قديمة أشار إليها في حوارات عديدة جمعته مع مراجع شيعية كثيرة، ومع ذلك فقد جلبت له تصريحاته الأخيرة كثيرا من المتاعب من خلال الهجوم الذي شنته عليه أطراف عديدة آخرها تجلى في سعي مجموعة من الشيعة في دول الخليج إلى رفع دعوى قضائية ضده تطالب بتعزيره أو الحجر عليه وسحب الجنسية القطرية منه. ما يثير الانتباه في هذا السجال هو أنه يعكس خلافا سياسيا وصراعا إقليميا يتجه نحو مواجهة مباشرة، فوكالة مهر الإيرانية شبه الرسمية هي التي بدأت الحملة ضد القرضاوي عندما وصفته على لسان أحد المحللين السياسيين الإيرانيين بأنه "يتحدث نيابة عن الماسونية العالمية وحاخامات اليهود"، وبعد ذلك تحركت المرجعيات الشيعية المعروفة بمساندتها لفكرة الحوار مع أهل السنة لتنكر على القرضاوي مواقفه وتصنفها ضمن جهود التفرقة وضرب الوحدة الإسلامية، وقد كانت الردود التي أطلقها آية الله محمد حسين فضل الله وآية الله محمد علي التسخيري وهما من رموز الحوار والاعتدال لدى الشيعة تركز على المقارنة بين الخطر الإيراني والخطر الأمريكي والإسرائيلي، ونفس الكلام كان قد أطلقه آية الله التسخيري في آخر مؤتمر للتقريب عقد في الدوحة عندما تحول إلى الدفاع عن سياسات إيران وطالب السنة بالكف عن التنديد بالسياسات الإيرانية في العراق. ولم يشفع للقرضاوي ثناءه على أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي قال إنه برغم تعصبه لمذهبه فإنه أفضل من غيره من القاعدين والمتخاذلين، وقد تحدث فضل الله بنفس اللغة التي تحدث بها التسخيري وتساءل عن الخطر الحقيقي الذي يداهم المسلمين، وفي الجهة المقابلة لم يخف بعض شيوخ الأزهر الذين تدخلوا في هذا الجدل الهواجس السياسية التي تحركهم وبرأيهم فإن المشكلة لا تكمن في تشيع السنة بل في ولاء الشيعة لإيران، وهذا موقف لا علاقة له بالنظرة الإسلامية التي تتجاوز الحدود السياسية ومفاهيم السيادة والدولة، والأهم في الأمر هو أن هذه المخاوف هي مخاوف رسمية مصرية كان قد عبر عنها الرئيس المصري حسني مبارك بشكل صريح في حوار مع قناة العربية عندما قال إن ولاء الشيعة في العالم الإسلامي هو لإيران وليس لأوطانهم، وقد أثارت تلك التصريحات ردود فعل حادة من قبل الإيرانيين والشيعة في الخليج العربي والعراق ولبنان خاصة وأنها تزامنت مع ضغوط تمارسها أمريكا والدول الغربية على إيران بخصوص برنامجها النووي. الجدل الذي يحتدم اليوم بين الشيعة والسنة أذكاه احتلال العراق الذي وقع تحت سيطرة حكومة موالية للاحتلال يسيطر عليها الشيعة، ويجد هذا الجدل مادته في المذابح الطائفية التي شهدها ويشهدها العراق منذ احتلاله حيث تحوم الشبهات حول النفوذ الإيراني المتعاظم هناك ودوره في عملية تغيير التركيبة السكانية لمناطق مهمة من العراق وبصفة خاصة العاصمة بغداد، وهناك أسئلة حرجة تطرح حول حقيقة العلاقة الأمريكيةالإيرانية في العراق والتنسيق الذي حدث بينهما قبل غزو العراق وبعده، وقد كان تفجير مقامات شيعية مقدسة، وخاصة مقامي الإمامين العسكريين في سامراء، تحولا مأساويا نحو الحرب الأهلية في العراق وهو وضع يخدم الاحتلال الأمريكي بالأساس، ثم جاء الصراع في لبنان ليزيد في هذا الشقاق الطائفي رغم أن المسألة تتعلق بخلافات سياسية في المقام الأول. رغم خطورة الفتنة الطائفية التي أصبحت تهدد دولا عربية كثيرة بالتجزئة لم يكن هناك أي حوار فكري هادئ وهادف بين السنة والشيعة في العالم الإسلامي، وحتى اللقاءات التي كانت تعقد في إطار التقريب بين المذاهب الإسلامية كانت تبدو مجرد لقاءات مجاملة فارغة من أي محتوى وفي حالات كثيرة تحولت إلى مناسبات لتبادل التهم بالتكفير والتحريف والغلو والتطرف، ولم ينهض أي من المشاركين في هذه اللقاءات بالتزامه تجاه الأمة بضرورة التقريب بين مذاهبها بدل دفعها نحو التناحر كما هو حاصل اليوم. يعكس الشرط الذي وضع للتقريب، وهو أن يمتنع أي طرف عن نشر مذهبه في البلاد التي تتبع مذهبا آخر، الخوف من حوار الأفكار واعتبار المجادلة بالتي هي أحسن، وهي من القواعد القرآنية، خطرا على انسجام المجتمع واستقراره، وهذا الخوف نجده أيضا في التعامل بين مذاهب أهل السنة حيث تنزع الجهات الرسمية نحو مزيد من ترسيم مذهب بعينه والدفاع عنه وغلق الأبواب أمام المذاهب الأخرى كما يحدث عندنا في الجزائر من خلال التأكيد على مذهب الإمام مالك وحتى تشجيع قراء القرءان على الأخذ برواية ورش عن نافع دون غيرها من الروايات. ولعل هذا التوجه يناقض حركة التاريخ والتطورات السريعة التي تجري على الأرض اليوم، فثورة الاتصالات لم تترك مجالا لأحد للالتزام بهذه الضوابط، والوسائل الأساسية التي يستعملها الشيعة اليوم هي القنوات الفضائية والإنترنيت وهي تكاد تكون في متناول الجميع، وهذه الساحة تبقى مفتوحة للمنافسة وللنقاش الحر الذي يجب أن نعكس على مستويات أعلى من خلال النقاش بين العلماء من الطائفتين مع ضرورة التحرر من الدوافع السياسية التي تتحكم في كل شيء إلى حد الآن. لا شك أن إيران تسعى إلى لعب دور أساسي على المستوى الإقليمي وهي تريد أن تكسب مزيدا من التعاطف في جميع أنحاء العالم الإسلامي وفي البلاد العربية خاصة، لكن من الخطأ الاعتقاد أن إيران لا تراعي مصالحها وأنه تريد نشر المذهب الجعفري فقط، وفي المقابل هناك الدول العربية التي تتخوف من تعاظم النفوذ الإيراني لكنها لا تفعل شيئا لتقوية نفوذها هي بل كل ما تفعله هو السير خلف الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو ما يضرب مصداقية تلك الأنظمة العربية لدى شعوبها أولا ويجعل الحديث عن الخطر الشيعي يبدو كجزء من خطة أمريكية إسرائيلية لمواجهة إيران وكسر قوتها الصاعدة، والأخطر من هذا كله هو أن الذين يتحولون إلى التشيع، وهم أقلية في كل الأحوال، إنما يفعلون ذلك تأثرا بالتوجهات السياسية لإيران وحزب الله والتي تتطابق مع قناعات الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية بصرف النظر عن المذهب الذي تتبعه. إن السياسة هي التي تمنح الشيعة بعض القوة والنفوذ، ومواقف الأنظمة العربية الموالية لأمريكا والمتواطئة مع إسرائيل هي التي تجعلها ضعيفة وتثير الشبهات حول خطاب التحذير من الخطر الشيعي، ومن أراد أن يواجه إيران فعليه أن يكسب ولاء شعبه بالإقناع وبالتحرر من سيطرة الأجنبي.