أحمد الله تعالى على أنني لست من أصحاب الأموال، ولا يساورني قلق بشأن الأزمات المالية العاصفة إلا من باب الشفقة على مصير من هم ضحايا تلك الأزمات من الفقراء والبسطاء والبؤساء، أفراداً ومؤسسات وحكومات، وفي مقدمتهم الكثير ممن لا يملكون مالاً ويتحملون خسائر مع من يملكون المال، لأن الأزمة الاقتصادية التي تكتسح العالم تنعكس على من يملكون ومن لا يملكون ولو بدرجات متفاوتة. وفي حروب الولاياتالمتحدة الأميركية على العالم، ومنها الحرب الحالية على الأمتين العربية لإسلامية في العراق وأفغانستان التي تكلف 14 أربعة عشر مليار دولار شهرياً، وفي أزماتها الداخلية والأزمات التي تخلقها أو تفتعلها هنا وهناك، سياسية وأمنية واقتصادية، يخسر كثيرون من العرب أو يدفعون، حكومات وأفراداً، أموالاً طائلة، وتبقى رقابهم وما يتبقى لهم من أموالهم دوماً قيد الحصار في المصارف الغربية أيام السلم والاستقرار، وقيد التبخر السريع في الحروب والأزمات، ومع ذلك يستطيبون النوم العميق في أحضان من يحاصرهم ويخنقهم وينهبهم، ويستلذون العذاب بأيدي الغرباء، بينما ينفرون ويستنفرون هلعاً من ابتسامات الأقرباء وغزلهم " العبيط" المفضوح ولعابهم الذي يسيل من أجل دراهم معدودات تسد الرمق أو تنهض بهذا المجال أو ذاك من مجالات الاستثمار والإعمار في أرض العرب. لم يستفد أصحاب المال العرب من دروس الماضي، ولا يبدو أنهم سوف يستفيدون من دروس الحاضر الرهيب، وهم الأقدر على معرفة المداخل والمخارج من الأزمات والاستفادة من المعطيات والمتغيرات إن أردوا.. ولا أعرف لعدم استفادتهم سبباً وجيهاً؟ لم تكن لأولئك المقتدرين الحصفاء مصارفهم الخاصة المستقلة المنافسة لمصارف الآخرين الجديرة بالثقة في بلدانهم، ولا سعوا أو دفعوا بتأثير باتجاه قيام وحدة نقدية جامعة في جامعتهم أو تجمعاتهم السياسية والاقتصادية الأخرى، ولم يحرروا أموالهم من القيود التي يفرضها أعداء الأمة على مالها وأبنائها وأقطارها من دون تمييز يذكر.. ولم.. لم.. مما يرفع السؤال عالياً: إلى متى ولماذا.؟ لقد مضى عهد التأميم والمصادرة، وغدت الاشتراكيات رأسمالية بامتياز، وسيطرت رؤوس الأموال وأصحابها على الأسواق والقرارات والعقول في كثير من البلدان والمواقع.. فإذا كانت القضية التي تقلق أصحاب المال والاستثمار في أرض العرب تتصل بقوانين مناسبة تحفظ الأصول والحقوق، وتوفر مناخ الثقة وتقيم جسورها المتينة بين المتعاملين والمستفيدين من جهة وبين الحكومات والمستثمرين من جهة أخرى، فمن الممكن ومن الضروري أيضاً استصدار قوانين توفر ذلك وتقيمه على أسس قوية وسليمة لكي تعود الأموال المهاجرة إلى موطنها ويستفيد أهل الدار من ثمار أشجارهم.. وإذا كان الأمر يتعلق بمن ينهبون ولا يستثمرون، أي بأموال منهوبة وسُرّاق لا يأمنون على أموال سرقوها من بلدانهم إلا في بلدان غير بلدانهم، فهناك من المؤشرات ما يكفيهم إلى طمأنتهم بأنه لم يعد هناك حساب يذكر لمن يحسن النهب والتستر، فالذين بيوتهم من زجاج لا يرمون الناس بالحجارة، وكثير من أولي الأمر المسؤوليات في هذا الزمن العربي بيوتهم من زجاج، وكلٌ ينهب على هواه في الوقت الذي يتاح له فيه ذلك، وينتهي به الأمر من بعد إلى أن يصبح من أصحاب السطوة التي تُعطل القوانين وتُسكت الألسن وتُزيف الوقائع والحقائق وتُلغي الإرادات الخيرة، وتفسد ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.. فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب، وانتشر من الجياع في أرض العرب ما يكفي المعنيين بالمال والسطوة والرشوة لرد شرهم بتوفير أبسط الفرص أمامهم لكسب اللقمة التي تسد الرمق، فجياع عرب اليوم لا يبحثون عن عدالة ومساواة بمقدار ما يبحثون عن أمن من جوع وخوف. في أيام عيد الفطر الماضية أتيح لي أن أقف على حالات من البؤس لم كن أصدق أنها موجودة بين الناس في مجتمعنا، وتذكرت قول ابن أبي طالب " عجبت للفقير كيف لا يخرج حاملاً سيفه!! وفكرت في ذلك ملياً.. وعرفت في مجتمعنا بالمقابل حالات من التبذير لا قِبَلَ لخيال الفقراء والمساكين بتصورها.. وحاولت أن أقارب بين فقر مدقع وغنى فاحش، بين حاجة تبيح الجسم الروح وتعريهما أمام الآخرين وتبذير يفوق الحاجات والتصورات ويفسد النفوس والأرواح والأجسام.. فما استطعت إلى ذلك سبيلا.. لقد تآكلت الجسور واتسعت المسافات بين أبناء المجتمع الواحد إلى درجة مؤسفة ومحزنة في آن معاً.. الطبقة الوسطى تآكلت إلى أبعد الحدود وازداد عدد الفقراء وازدادوا فقراً، والطبقة الغنية تورمت وتضاعف عدد الأغنياء وازدادوا غنى.. وذلك يقسم المجتمع إلى قسمين تفصل بينهما هوة واسعة تستعصي على الردم، ولا تعود للجسور الواصلة بينهما جدوى ولا قدرة على التوصيل والتواصل.. لكنني مع ذلك لم ألمس عند الفقراء رغبة في الثورة ولا في الثروة، بل تحرقاً للحصول على فرصة عمل وكسب كسرة الخبز بعرق الجبين وبشرف في أرض تمتد مساحتها في قارتين كبيرتين.. وهذا الوضع يعبد الطريق أمام من يريد الوصول بالمجتمع العربي إلى حالة من التوازن والاستقرار النسبيين اللذين يفسحان في المجال والمدى الزمني لردم بعض أبعاد الهوة التي تعمقت وتعملقت بين الفقر والغنى والفقراء والأغنياء. إن أصحاب رأس المال والمودعون العرب شركاء في المشكلة والحل، وهم بمعنى من المعاني ضحايا الأزمات التي تصف بالآخرين أو يفتعلها الآخرون، ومن مصلحتهم بوصفهم أثرياء ومواطنين ومقتدرين أن يشاركوا في تحمّل مسؤوليات جسام في مجتمعاتهم وفي استنقاذها ما أمكن من براثن قد تتردى بها أكثر فيتردون هم معها بصورة أعمق ويخسرون بخسارتها أكثر مما خسروا.. إن استنقاذها في مصلحتهم على المدى البعيد، وكذلك شأن أصحاب المسؤولية والسلطة ممن يملكون دولاً أو يتحكمون في مصير الناس تحكّم المالك في دول، إذ عليهم أن يستنقذوا ما يمكن استنقاذه من بُنى وقيم وعلاقات وحيوات ومصالح في مجتمعاتهم، وأن يبعدوا شبح ما يمكن أن يشكل عواصف فوضى تعصف بهم في المستقبل إذا لم يتم تدارك الأوضاع المتردية الآن.. ويبدو لي أن مصلحتهم تكمن في أن يكون هناك شعب حي يتمتع بعافية روحية وسلامة اجتماعية ونفسية، ولديه ما يكفيه شر الحاجة المتلفة للقيم والعلاقات، شعب تعنيه العدالة والحرية والكرامة ويعيش حالة من الوعي والانتماء والمواطنة السليمة، لأنه في هذه الحالة يصبح رصيد القوة والتنمية اللتين تصونان الاستقلال وتحفظان الأمن وتصنعان المستقبل وتدفعان العدوان والظلم والقهر والتخلف، شعب هذه صفاته وإمكانياته يمكن أن يبني بعلم ومعرفة واقتدار، وأن يتقدم في كل الميادين بثقة، وأن يكون قوة أمة ووطن وحكومة وحاكم، قوة يحتمي بها من يتدرع بأمته ضد أعدائها ولا يتدرع بأعدائه ليحمي نفسه منها، قوة تصنع له ولأمت مجداً بدل أن يصنع أعداؤه به وبأمته من خلاله مجداً لهم وقوة لأوطانهم. ومن أسف أننا لا نلمح توجهاً نحو ذلك على الرغم من شدة المأساة وعمق الجراح وكثرة السكاكين فوق الرقاب. إن الأوضاع الاقتصادية العالمية المتأزمة كلفتنا الكثير وتهدد بالمزيد من التكاليف الباهظة، صحيح أنها عاصفة تضرب العالم كله وقد لا ينجو منها أحد، ولكن بصرف النظر عمن سببها ومن يستفيد منها، كيف يمكن التخفيف من شدتها وحدتها على أثريائنا وأوطاننا ومواطنينا؟ إن هذا يحتاج إلى تصرف حكيم وإلى مواجهات واستعدادات وبُنى على المدى البعيد.. وإذا كان قد فاتنا الكثير من ذلك ودفعنا جراء عدم الاستعداد له ثمناً فادحاً حتى الآن في مناسبات وأوضاع وحروب وأزمات سابقة فهل نتطلع الآن إلى تأسيس ما يعصمنا من ذلك النوع من الأزمات الخارجية ومفاعيلها وانعكاساتها الداخلية مستقبلاً.. أم أننا نبقى على حافة الأزمات وشفير الهوة ونقول " الله أكبر .. لنا في الكأس بقية"، ونشرب السم الزعاف ونجأر من الوجع؟! إن الأمر منوط بالمقتدرين معرفة وقوة وثروة وسلطة وحكمة ورؤية وسطوة، فعليهم المبادرة وأن "يحسنوا جوار نعم الله"، ولهم من بعد النفع الأول والأكبر في الإصلاح والتحصين والترميم.. وعليهم أنله منوا أن ما يصيبهم من نقص في الأموال والثمرات من جراء عاصفة ما قد يذهب بنصف ما يملكون أو يزيد على النصف قليلاً، ومع ذلك يبقي لهم مال وثروة قياساً على الفقير الذي حين تعصف به العواصف ويذهب أو يتبخر نصف ما يملك بطريقة ما فإنه يبقى على الحصير، هذا إن وجد لديه الحصير أصلاً.. ولذلك ما له من عواقب لا ترضى الله ولا تبني الأوطان والأمم وقد تخرج الفقراء شاهرين سيوفهم، مما لا يبقي ثروة آمنة ولا أمناً للبشر والأوطان.. فأمن البشر والثروة والمال والأوطان في الاستثمار في الشَّبَع والعدل والأم من جوع وخوف أولاً وآخراً.