بينما بدأت تظهر البوادر الأولى لخروج الاقتصاد العالمي من الأزمة، تشير التحاليل الأولية إلى مفاجأة كبرى حول طبيعة تلك النكسة التي أصابت الاقتصاد العالمي. وعكس ما كان يشاع، فإن الأزمة الحالية لا تختلف عن سابقاتها من حيث النتائج والمضمون، ولا فيما يتعلق بضحاياها وقائمة الخاسرين فيها. إنها أزمة عادية جدا، لا تتميز عن سابقاتها إلا في الطريقة التي لجأت إليها الدول الغنية لمواجهتها، والمناورات الدعائية التي استعملتها الدول الغربية حتى تبرر استعمال أموال الفقراء لمساعدة الأغنياء وإنقاذ رأس المال بأموال العمال. * وقد كان ثمن الأزمة باهظا، حيث اضطرت الولاياتالمتحدة مثلا إلى الشروع في برامج إستعجالية فاقت قيمتها ألف مليار دولار. أما الأثرياء العرب، فقد خسروا ضعف تلك المبالغ بسبب تراجع قيمة ممتلكاتهم في البلدان الغربية. غير أن هذا الجانب يتعلق ببلدان وفئات اجتماعية خسرت أموالا لكنها لم تعرف اليأس والحرمان. * * أما الخاسرون الحقيقيون في الأزمة، فإنهم أولئك الفقراء في البلدان الغنية، من عمال وبطالين. وفي الولاياتالمتحدة دائما، تضاعف عدد البطالين، بينما لجأت شركات كثيرة إلى استعمال الأزمة حجة لإعادة هيكلتها وتسريح العمال بالآلاف. كما ضيع الملايين من الناس مساكنهم وممتلكاتهم في أمريكا وبعض البلدان الأوروبية بسبب التلاعب بالقروض من طرف البنوك. * * وفي قائمة الخاسرين، نجد كذلك البلدان الفقيرة التي وجدت نفسها أمام وضع لم تشارك في صنعه، ولا تكسب الوسائل الضرورية لمواجهته. وكانت الفئات المتواضعة في تلك البلدان الفقيرة هي الأكثر تأثرا بالأزمة، مما يؤكد أحد الثوابت الاقتصادية: لا يشارك الفقراء في صنع الأزمة، لكنهم أول من يدفع ثمنها، وهذا مصير أغلبية البلدان الإفريقية وسكانها. * * ولما انتشرت آثار الأزمة، اجتهد قادة البلدان الغنية لمواجهتها. ومن الظواهر الإيجابية التي تميزت بها هذه الأزمة، يمكن أن نذكر موقف البلدان الغنية التي عملت بصفة جماعية ومنسجمة، وكانت مبادراتها ناجحة إلى حد بعيد، حيث استطاعت البلدان الغنية أن تخفف من حجم الأزمة، وتمنعها من دفع الاقتصاد العالمي إلى الانهيار. * * لكن يجب أن نعود إلى مفهوم النجاح ومضمونه. ولا بد هنا من التذكير أن قادة البلدان الغنية استعملوا أموال المواطنين لمساعدة الأغنياء وإنقاذ البنوك. ولم يكن ذلك غريبا لأن الأنظمة القائمة في تلك البلدان تنبع عن إرادة الفئات الثرية، حتى ولو كانت تدعي أنها تتبنى فكرا يساريا. وكان من الطبيعي أن يسرع القادة إلى إنقاذ البنوك وشركات السيارات الكبرى التي لا يمكن التخلي عنها دون انهيار قطاعات كاملة من الاقتصاد في تلك البلدان. * * ولكن ما يلفت الانتباه هو المجهود الدعائي الذي رافق عملية إنقاذ الشركات التي كانت متسببة في الأزمة. والمعروف أن الأزمة الحالية جاءت بسبب التصرف اللا مسؤول والجشع الذي ميز عمل المؤسسات المالية، خاصة الأمريكية منها. ولما وصلت تلك المؤسسات إلى مأزق وأصبحت مهددة بالانهيار، اجتهد قادة البلدان الغربية ليقنعوا مواطنيهم والعالم أن الأزمة تهدد الجميع، وأن إنقاذ البنوك يشكل خطوة أساسية لإنقاذ الاقتصاد العالمي... * * ومن هذا المنطلق، قرر أولئك القادة استعمال المال العمومي لإنقاذ البنوك. وارتفع حجم الديون العمومية في البلدان الغربية التي لجأت إلى هذه الصيغة، مما يعني أن الفقراء سيدفعون لسنوات طويلة ضرائب من أجل تسديد تلك الديون التي تم استعمالها لإنقاذ بنوك ومؤسسات مالية يكسبها الأغنياء... * * وأكدت هذه الظاهرة أن أصحاب المال قد فرضوا رأيهم في بلدانهم من جهة، وأنهم أصبحوا يصنعون القرار الحقيقي في السياسة والاقتصاد. وأكدت نفس الظاهرة أنهم تجاوزوا هذا المستوى ليفرضوا رأيهم في المحافل الدولية، حيث فرضوا على قادتهم أن يجتمعوا وينسقوا مبادراتهم من أجل الحفاظ على مال الأغنياء. * * عكس ذلك، اتضح مرة أخرى أن الفقراء لم يتوصلوا إلى هذا المستوى من التنظيم، بل أنهم أصبحوا متأخرين إلى درجة كبيرة مقارنة مع أصحاب المال. واتضح أن النقابات وأحزاب اليسار التي تتبنى مبادئ التضامن، ما زالت كلها تعمل على مستوى الأقطار التقليدية، بينما استطاع رأس المال أن يتخطى الحدود. * * وفي الأخير، يستحي الإنسان أن يتكلم عن الجزائر وطريقتها في مواجهة الأزمة. وكيف نتكلم عن ذلك مع العلم أن مسؤولين جزائريين قالوا في بداية المطاف أن الأزمة لن تمس البلد بفضل التدابير التي تم اتخاذها في إطار برنامج رئيس الجمهورية، قبل أن ينهار سعر النفط وتقرر الحكومة مواجهة الأزمة فاستعملت طرقا كانت قائمة في القرن التاسع عشر قبل ميلاد الاقتصاد العصري...