كلنا نأكل الطعام ونمشي في الأسواق، كلنا نمتعض من بعض التصرفات والسلوكات التي نراها في الساحة السياسية وفي غيرها من حقول الحياة والشأن العام للبلاد وللعباد، حتى ممن تجمعنا بهم مبادئ وقيم، ونرى أنفسنا حيث يكونون، وقد يكون امتعاضنا مجرد شطط في التقييم أو ممن غايتهم لا تدرك، إلا أنه يبقى العامل المشترك بين الجميع هي المصالح العليا للبلاد، وقيم الأمة التي ضمنتها أسمى نص تشريعي، وهو الذي عليه صيانتها وحمايتها، باعتباره ميثاق غليظ وعهد مبرم بين أفراد الشعب وجماعاته من جهة وبينه وبين سلطته من جهة أخرى ألا وهو الدستور. ذلك أن الدساتير الوضعية الراسمة للنظم السياسية والمنظمة لها في كل بلدان العالم في حقب تاريخية متتالية، ليس لها مصدر سوى آراء البشر، حسب الأزمنة والظروف، فهي التي تنبني عليها السياسات، وهي التي تحررها وتكبلها . لذلك لا توجد نمطية موحدة للدساتير، إنما تختلف مفاهيمها تبعا للطبيعة التركيبية للمجتمعات الإنسانية، وتختلف حتى آراء المجتمع الواحد حول إعداد النص الدستوري، وتتضارب، بل تتناطح، تبعا لاختلاف فئات ذلك المجتمع في المناهل والمشارب وفي التوجهات والمنطلقات . طبيعي إذن أن الكلام عن الدستور وفي الدستور يستهوي كل الطبقات السياسية النشطة منها والصامتة، المتشبثة بالقيم وتلك التي تشرب من غير نفس النبع، بما في ذلك المثري والمفلس...وأسعد المجتمعات وأهنأها هو ذلك الذي تحترم أغلبيته آراء أقليته، وتلتزم أقليته بما تقره أغلبيته إنه المجتمع الملتئم الشمل . فبالعودة إلى التعديل الأخير للدستور الجزائري، لم يتطرق المعيبون عليه إلى المرجعية القانونية الدستورية لمراجعته، والمراحل التي مرت بها والتدابير التي اتخذت بشأنها والتي أقرها ذات الدستور في مادته ال176، والذي لم تشارك الطبقة السياسية الحالية في سنه ولا في تعديله السابق 1996. المعيبون لم يتطرقوا إلى مساوئ " إن كانت هناك مساوئ " ولا إلى محاسن تعزيز رموز الثورة التي هي رموز الجمهورية، " من علم وطني ونشيد وطني "بزيادة بند سابع في المادة 178 من الدستور قصد دسترة ترقية كتابة التاريخ وتعليمه للأجيال الناشئة . المعيبون لم يتطرقوا إلى مساوئ " إن كانت هناك مساوئ" ولا إلى محاسن ما جاء في المادة 31 مكرر " مستحدثة " من دعم لترقية الحقوق السياسية للمرأة من أجل ولوجها بحظوظ أوفر في المجالس المنتخبة، وهي التي حمتها كل نصوص الجمهورية، وهي التي قطعت أشواطا معتبرة في مختلف المناصب والمراتب. المعيبون لم يتطرقوا إلى الغرض الذي يهدف إلى تعديل الفقرة الثانية من المادة 74، من حيث أنه يمنح السيادة الشعبية مدلولها الحقيقي، وإمكانية التعبير عنها بكل حرية، وذلك هو أبلغ تأويل إلى ما ورد في ديباجة الدستور. المعيبون لم يناقشوا مساوئ ومحاسن مسألة إعادة التنظيم الداخلي للسلطة التنفيذية، بما يوضح أكثر مهام قمة هرمها التي تداخلت صلاحياتها وتضاربت المهام فيما بينها إلى درجة حجب الإرادة الشعبية أحيانا وراء بعض السلوكات والتصرفات والممارسات. إن الأمر يتعلق بتجربة صاعدة هي في حاجة ماسة إلى إثراء وتطوير وتشجيع حتى تتأكد بأنها طموحة واعدة، وأن الذين يفصلون بين مصالح الشعب وتعديل الدستور، إنما هم يؤمنون ببعض الشيء ويكفرون ببعضه، إنما هم كالغائب عن العرس... !؟