كثيرا ما ُيقدَّم الحق وقد أريد به باطل، كذلك كانت" ثورة" بعض الأنفار داخل البرلمان على الوضع الاجتماعي والسياسي المتردي، بضرب الذاكرة الجماعية للأمة من خلال التشكيك في عدد الشهداء الذين تعارف الجزائريون على أنهم مليون ونصفه من المطهَّرة أرواحهم، فهل لم ير هؤلاء المرضى من إشهار لأنفسهم من طريق غير هذا الخزي المبين؟ لكل أمة-مهما جمحت بها ديمقراطيتها- حدود يقف أمامها الجميع، ولا يمكن أن يتخطاها أحد مهما كانت مكانته الاجتماعية أو السياسية، ويسقط دونها السفهاء الذين يتجرؤون على المساس بقيم المجموعة البشرية التي ينتمون إليها سواء كانت دينية أو أخلاقية أو تاريخية أو جغرافية، ولم نر قوما سمحوا لمرضاهم أو مجانينهم بإحداث أي نوع من الثقوب في جدار تماسكهم إلا ودخل منها الاستلاب فالاحتلال فالعبودية فالتخلف الذي يحمل كل أنواع الفساد، وكذلك يريد البعض من المعاقين ثقافيا أن يصيبوا كيان شعبهم ببعض الفيروسات الخطيرة القاتلة . ليس عيبا أن يتحدث بعض المتحدثين عن الخلافات القائمة بين أبناء البلد الواحد، نتيجة التعدد السياسي واختلاف الرؤى كما أنه ليس من العيب حتى أن يتقوَّل البعض على البعض الآخر، إذا كانت الغاية هي ترميم الحاضر من أجل الوصول إلى مستقبل مشترك كما أراده الشهداء، لا يئن تحت وطأة العُقد والأمراض، ولكن العيب - كل العيب -أن يمس شخص ما -مهما علا- الذاكرة الجماعية للجزائريين، فالشهداء هم الإرث المقدس لكل من يأتي بعدهم، لا يمكن المساس بحرمتهم سواء بالتشكيك في عددهم أو بالتخلي عن وصيتهم، ولا يمكن تبرير الفعلة الشنيعة المقترفة بما يجري نتيجة انحدار القيم الاجتماعية وسقوط الأخلاق السياسية وضعف يكاد يكون مزمنا للسلطة . إن إدارة الاحتلال الفرنسي السابقة، قد حرّكت أدواتها وآلياتها منذ أكثر من ربع قرن لمحاصرة الشعب الجزائري بإعادة تطويق ثورته التحريرية التي أذَّنت في المستعبدين كي يتحرروا، وأوضح مظاهر التطويق تجلى في شبه الإجماع بين المؤرخين الفرنسيين وحكومتهم التي أسست لقانون العار الذي يمجد الاستعمار، حيث تم تقليص عدد شهداء ثورة الجزائر إلى أقل من ثلاثمائة وخمسين ألفا من أصل مليون ونصف المليون شهيد، ممن أذابتهم قنابل النابالم الحارقة أو راحوا ضحية التجارب النووية الفتاكة أو ضاعوا في حقول الألغام المحرمة أو ُصعقوا بالضربات الكهربائية المميتة على مدى سبع سنوات ونصف السنة وقد أعلنهم الشعب الجزائري قربانا لاسترجاع دولته. انخرط في هذا التوجه- للأسف الشديد- مَن ُيفترَض أنهم أحرص الناس في الدفاع عن حياض الشهيد، وأحق بالشهداء من غيرهم، وكأن انتماءهم إلى حركة سياسية شاذة الأهداف والمرامي يرفع عنهم القلم فيقولون ما يشاءون من أباطيل، إلا أنهم بجعلهم شهداء الجزائر سلعة في سوق التبضُّع السياسي الرديء يكونون قد تجاوزوا المحظور والمقدس وشقوا عصا الطاعة على أمة بأجيالها وأعلنوا ولاءهم لغيرها بل لعدوها . إن هؤلاء المرضى مثلهم مثل أولئك السراق والمفسدين ودعاة الموت الذين يعاني منهم الجزائريون كلهم، بل قد يكونون أشد عليهم إيلاما لأنهم يمسون-بدناءتهم وسفههم- الذاكرة المشتركة وما فيها من قداسة يحتلها الشهداء الذين لو ُبعثوا وعادوا لبدءوا بهم حملة تطهير المجتمع، فهم جميعا عملوا على أن يكون النموذج الفرنسي المتخلف في إدارة الدولة هو النموذج الواجب اتباعه، وفرضوا وجهة النظر الفرنسية البئيسة على ما عداها في تسيير الشأن العام الجزائري، بل جعلوا الإدارة الجزائرية بسلوكها ومعاملاتها وعلاقاتها بالمواطن نسخة مشوَّهة من الإدارة الفرنسية، فالاقتصاد الجزائري مرتبط عضويا باقتصاد فرنسا إلى درجة أن من ُيفلس في الضفة الشمالية تعاد له الحياة من الضفة المقابلة، واللغة الفرنسية التي كانت لغة قلة مقرَّبة من إدارة الاحتلال فقط ُعمّم استعمالها وتمددت ليس على حساب اللغات الأجنبية الحية المطلوبة عالميا بل على حساب اللغة الوطنية والرسمية التي لم تشفع لها مكانتها العالية في الدستور ولا وضعها القانوني المريح حتى أصبحت تشبه اللغة الأجنبية الثانوية المنبوذة في دارها والمقهورة من أهلها . يبدو أن أصحاب اللغو والباطل في المسألة التاريخية تناسوا أن الجزائريين التحقوا بالثورة المسلحة- التي أطلق شرارتها المباركة فتية قليلون آمنوا بالله والوطن- على ثلاثة أشكال : 1-شكل انصهر فيه المعذبون على أرضهم في الثورة بدون تحفظ وقدموا النفس والنفيس ومنهم بطل الجزائر المزمجر من جرجرة عميروش والقادة الآخرون الذين سقط أغلبهم في ساحة الشرف، وقليل منهم من بقي على قيد الحياة بعد استعادة الاستقلال، يضاف إليهم أبناء الشعب الذين أطعموا وآووا وحموا المجاهدين المقاتلين . 2-شكل التحق بالثورة بعد اشتداد عودها خوفا من بطشها أو طمعا في "غنائمها"، وكثير من هذا الشكل وزع أفراد أسرته على الخندقين المتحاربين خندق جيش فرنساالمحتلة تحت لواء ما يعرف بالقومية والحركى وخندق الجبهة تحت قيادة جيش التحرير الوطني . 3-شكل حارب الثورة وظل يناصبها العداء إلى آخر يوم من أيام المواجهة الدامية بين الجزائروفرنسا بزعامة الخونة الذين حملوا السلاح ضد شعبهم الذين فر بعضهم مع فرنسا المرحَّلة، غير أن جموعا منهم اندست وسط الحشود السّكْرَى بالنصر وتحالفوا مع أبناء الشكل الثاني الذي تؤكد كل القرائن أنه هو الذي اغتصب السلطة الفعلية وأدار الدولة الوطنية إلى وجهة السقوط التي خطط لها الجنرال شارل ديغول ومنهم تضخمت أعداد بطاقات المجاهدين، وللأسف فإن تحالفا جديدا مبنيا على مصالح من نوع آخر أضر بالجزائريين، يبدو أنه في طور التشكل إن لم يكن اكتمل، بين أبناء ذلك التحالف وبين المعاقين والمرضى من بعض أبناء الشهداء من أمثال من شتموا الشهداء في شهرهم بعدما استغلوا هشاشة الواقع السياسي الراهن ليصبوا جام غضبهم عليه من باب النيل من التاريخ المشترك للجزائريين، وقديما قيل في المثل الجزائري الدارج: النار تولد الرماد !