يبدو أن الكلام الصريح الواضح غير مرغوب فيه على الإطلاق، ولم يعد مما يحتمَل في أيام وظروف نحتاج فيها إلى الكلام الصريح الواضح الذي يترجَم إلى فعل، وأن الموقف المبدئي يرتدّ على صاحبه سلبياً بأشكال متعددة من بينها العتب واللوم الصامت والحجب المعلن وبعض الصراخ.. وما قد يربو على ذلك، وأن حضور " الفَرْم" المعنوي المنظّم للرأي المساند للحق والعدل ومقاومة الاحتلال فوق الوصف، ويجري على قدم ساق في أوساط عدة ومظاهر متعددة، وبدفع صهيوني أميركي قوي غير قابل للمناقشة ولا للتوقف عند حد. والسياسي العربي القلق في مقعده المترنح بين اليأس والأمل، لا يطيق أن يعكِّر أحد صفو مزاجه ولا أن يذكّره باستقراره شبه المفقود ومسؤولياته عن الوجود مع تفاقم ما هو خطر وموجود، فيزعزع يقينه بحقائق الواقع التي تنقض معمار الوهم المستقر لديه أو المنسوج بعناية حوله وبين يديه، حتى ولو كان ذلك بخبر ما أو طلب ما تفرضه المسؤولية وتستدعيه الحوادث والأخطار الملمّة بالناس والمصالح، ولا نتحدث عن الوطن والأمة العربية التي سلم الجميع، من فوق إلى تحت فيما يبدو، بعجزها أو بعجز مسؤوليها عن رفع صفة العجز عنها، وهم يزرعون الأمل على قبر الهمّة التي دفنوها بايديهمة ويغمرون قبرها بأكاليل الزهر، ويتلون الآيات ويرفعون الأدعية على مقربة منه، برجاء ألا يتحرك القبر فيفضح، وأن يقوم سواهم باستنقاذها في يوم م،ا ّإذا كان لا بد من استنفاذها وبقائها، ويُغذُّون أوهام الشعب بإمكانية عودة الأمل فيهم وعلى أيديهم أو أيدي تابعيهم، فيرتاح إلى الوهم بعد أن فقد الحلم والبدائل الواقعية. لا نرجم بالغيب ولا ندعي ما هو غير موجود أو غير منظور، ولا نضخّم ما هو قزم من المعاناة والحوادث والمخاطر والمشاهد الدامية.. خذوا ما يجري في الخليل على سبيل المثال لا الحصر، ولا تقتربوا من غزة المحاصرة بلا أمل، بعد أن قرر وزراء الخارجية العرب مساعدتها بصورة عاجلة فمنع الكيان الصهيوني سفن من وصلت سفنه منهم إلى مشارفها من الوصول إليها، فلم يعد لهم باليد حيلة ولا موجب لسرد سير فيها الهم والغم. وربما منعهم جميعاً من مجرد رفع صوت والاحتجاج على ذلك، حتى من باب رفع العتب الشعبي وتبرئة الذمة أمام الرأي العام، ربما منعهم حساب من الحسابات التي ليست على البال ولا على الخاطر.. مثل أن يعتب مسؤول غربي أو يغضب صهيوني فيحدث ما لا تحمد عقباه، أو أنهم فضلوا الصمت لأن احتجاجهم لا يقدم ولا يؤخر، ومن الأفضل طلب الستر أمام العالم. في الخليل ومحيطها الجغرافي عمليات إجرامية يقوم بها المحتلون الصهاينة ممن يسمون "مستوطنين" ضد أبناء الشعب الفلسطيني العزَّل، تحميهم قوات الاحتلال وتساعدهم على بلوغ أهدافهم بأشكال مختلفة، سرية ومعلنة، لكي يتابع الكيان المغتصِب عملية التهويد وطرد السكان العرب من وطنهم، بعد إحراق بيوتهم ومزارعهم ومساجدهم وإتلاف أرزاقهم وإزهاق أرواح من يعترض منهم. ولا ينحصر هذا الأمر في الخليل، ولا هو ابن الأيام الراهنة فقط، بل هو تصرف مدروس تقوم به قطعان صهاينة يعرفون ما يريدون، ويقدَّمون لى أنهم منفلتون من كل قيد قانوني أو خلقي أو إنساني، يسرحون ويمرحون ويعتدون ويقتلون في الضفة الغربيةوالقدس والخليل وعكا.. إلخ وهم جزء من تخطيط لتحقيق أهداف الاحتلال. " الأخلاقيون؟" من الصهاينة الذين يغتصبون وطن الفلسطينيين ويرفعون شعارات إنسانية، إن وجدوا وارتفع لهم صوت، يكتفون بالقول: إنهم لا يوافقون على هذه التصرفات التي يقوم بها "الزعران". ولا يذهب أحد منهم أبداً إلى وصف ما يقوم به جيشه، جيش الاحتلال الصهيوني، من مواكبة وحماية ومساعدة عند اللزوم وبالرصاص الحي لهؤلاء الزعران الذين يريقون دم الفلسطينيين ويحولون حياتهم إلى جحيم ولا يحاسبون، ويطلبون المزيد من التمويل والحماية للقيام بتلك الأعمال الإجرامية والإبادة المنظمة، فيكون لهم ما يطلبون وأكثر.؟ إن السؤال الملح الآن: أين نحن مما يجري؟ وإلى متى الصمت؟ وما هي النتائج والعواقب المنتظرة؟ إن قراءة التاريخ القريب لأعمال العصابات الصهيونية في فلسطين التي أدت إلى المذابح، والنزوح والتشرد المستمرين، على الرغم من قرارات حق العودة وشعارات العودة حق.. وكذلك متابعة مشاريع الصهاينة واستعداداتهم وممارساتهم البشعة التي لم تتوقف لحظة واحدة تحت أي ظرف، على الرغم من الاتفاقيات والاعترافات والمعاملات السرية المعلنة، والتهدئات: استيطان، وتهويد، وجدار فصل، وعدوان، واجتياح، واعتقال، وقتل، وترحيل، وحصار، وتجويع، وتعذيب، وإذلال.. إلخ كل ذلك يشير إلى استمرار المخطط الصهيوني: "استلام أرض فلسطين كاملة خالية من السكان." والحصول على سلام استسلام. وما يجري يفيد بأن شيئاً على الأرض لم يتغير منذ كامب ديفيد إلى آخر اجتماعات أولمرت عباس، وليفني قريع، وأكاذيب بوش الذي وعد بدولة فلسطينية فثبّت يهودية الدولة العبرية وشرعية ضم مستوطنات الضفة الغربي، لا سيما تلك الموجودة منها حول القدس، إلى القدس الموحّدة، ليكتمل بذلك السوار اليهودي حول العاصمة التي يقر بأنها " عاصمة الشعب اليهودي الموحدة إلى الأبد"؟. يفرح عرب من العرب بإعلانات صهيونية تقول: "إن أحلام الصهيونية انتهت."، فهم لم يعودوا يطلبون دولة من الفرات إلى النيل، ولا الضفة الشرقية لنهر الأردن، ولا الوطن البديل، ولا أرض فلسطين بكاملها، وأن ذلك جاء عبر وقائع وتفاوض وفي تصريحات كبار المسؤولين الصهاينة، ومنهم إيهود أولمرت الذي أعلن بوضوح تام عن تراجع تلك الأحلام.؟ ونقول: نعم.. نعم.. نعم.. حدث ذلك بسبب صمود الشعب في الأراضي المحتلة، والمقاومة التي جابهت وحررت وقدمت التضحيات الجسام، وبسبب تغير معادلات المواجهة على الخصوص، وانهيارات معنوية في الكيان الصهيوني المحتل نتيجة لذلك كله. إن الحلم الصهيوني هُزم ولكن العدوان الصهيوني لم يُهزم بعد، وروح العنصرية المتغطرسة تتغذى من دمنا. وما يجري على الأرض في فلسطين، وما يواكبه من ضعف وتهافت وتخاذل عربي مهين، وتمزق فلسطيني مقيت، وتناحر على سلطة تحت الاحتلال لا تخدم سوى لاحتلال، وإجرام صهيوني مستمر ومخططات عنصرية لا تتوقف، واستعداد للعدوان والإبادة المعلنة والعذاب للشعب: " استراتيجية الضاحية، حسب قائد ما يسمى المنطقة الشمالية غادي آيزنكوت" و " القضاء على الجيش اللبناني وتدمير البنية التحتية اللّبنانية وإنزال العذاب الشديد بالشعب» حسب اللواء المتقاعد غيورا إيلاند.؟ كل ذلك يدل على استمرا الإجرام الذي لا يوقفه الكلام.. ويطرح على كل ذي مسؤولية وخلق وهمة سؤالاً مفاده: هل هناك همجية وإجرام وإرهاب أكثر من ذلك الذي يحرك الخلق ولا يحرك أنظمتنا العربية؟ وإلى متى يستمر هذا الوضع الذي لا يُقبل ولا يقنع. نحن العرب مطالبون بوقفة ولو أتت في وقت متأخر جداً، وقفة من أجل الشعب الفلسطيني المحاصر والملاحق والمعتقل والمشرد والمهدد بالمزيد من التشريد والبؤس واليأس، من أجل لبنان الذي يتم الإعداد للعدوان عليه لتدميره بعد كل ما لحقه من تدمير، ومن أجل الروح المعنوية لأبناء الأمة العربية الذين يتفرجون على معاناة أشقائهم.. وعلى الجنازات والملاحقات والاعتقالات والاعتداءات اليومية ولا يملكون إلا الحسرات والابتهالات. يحسُب الحاسبون نتائج أي تحرك، وتسيل " الحكمة ملء ممرات أماكن انعفاد لمؤتمرات والاجتماعات، ولكنها لا تفرج كربا ولا تبعث أملاً ولا تير حسابات ضيقة بعضها معلن وبعضها مخفي.. لسنا ضد الحسابات المسؤولة، المسؤولون الحسابون معهم كل الحق. ولكن.. نحن لا نطلب المستحيل.. لا نطلب إعلانات عاطفية انفعالية، ولا أن تزحف الجيوش العربية على فلسطين، "لا سمح الله؟" فتكرر مأساة 1948، ولا .. ولا.. كل ما نطلبه موقف عربي قوي كريم موحد، ثابت ومبدئي، قومي وإنساني، يوقف العدوان والمجازر والحصار والإبادة الجماعية المستمرة التي غدت حالة اعتيادية، أو يضع لذلك البؤس حداً.. موقف ينسجم مع القوانين الدولية، والالتزامات الخلقية، والقيم الإنسانية، والعدالة السماوية التي هي غاية كل دين وحضارة وثقافة ودولة وسياسة ونظام وحكم ومخلوق. فهل إلى ذلك من سبيل يا ترى؟