فتح الناس عيونهم في ظل الموج الهادر للعولمة وتحدياتها والتوسّع الخارق للإعلام والفضائيات ومختلف الوسائط، على واقع جديد لم يألفوه من قبل ولم يسمعوا به، وبعضه لا قبل لهم به أيضا. سيل جارف من المعلومات والأخبار وإيقاع سريع للأحداث والمتغيرات في ظل تداخل المصادر وتناقضها وتصادمها مع القناعات والمعتقدات ناهيك عمّا التبس منها وتشابك مما عسّر عملية الاستيعاب والمتابعة والفهم.. ليس بمقدور الناس جميعهم أن يتحرّوا صدق ما يستهلكون إنتاج ثقافي وإعلامي ومعرفي، ولا يملكون أدوات التحليل والمقارنة لإدراك خلفيات الصورة و ما وراء الخبر، ولا يتوفّر لهم أيضا القدرة على الفرز السليم حتى فيما يتصل بدينهم وثقافتهم وموروثهم الحضاري.. ولأن الزمن يلعب لصالح الزمن، يتصدّى أهل العلم وأرباب القلم والبيان لمهمة الإحاطة بهذا كله أو على الأقل ما تيسّر منه. لم يعد مفهوم "إذا اختلطوا الأديان شدّ في دينك" خيالا غامضا، بل إن هذا الانفجار الإعلامي والمعلوماتية ضمن الأنترنت والحواسيب والفضائيات والصحف المكتوبة والإذاعات خلق حالة جديدة تكاد تميّع كل شيء لصالح حسابات السياسة والمال ومختبرات ودوائر الصراع، وزاد الشك وتلبّدت سماء الناس ودنياهم بسحائب الريبة والتساؤل الهشّ عن هذه الهشاشة التي صار عليها الخطاب الديني وقضايا الفتوى التي أضحت فوضوية ضمن ترويج للبضاعة لا يختلف عن أي بضاعة. ولم يعد الفارق واضحا في فهم المقاصد العامة للشريعة في ظل مراصد كثيرة في البلاد العربية غايتها التعتيم على اتجاهات ومذاهب فقهية معينة لصالح مذاهب وفرق أخرى، وطغت بفعل الانتشار والذيوع أفكار الغلو في كل الاتجاهات والتنطّع والتعسير بدل الوسطية والتيسير. كان الدكتور وهبة الزحيلي محقّا في دقّ أجراس التحذير من هذه الفوضى الهدّامة، لأن انهيار المرجعيات والمؤسسات الفاعلة لا يخدم إلاّ أولئك الذين يصرّون إلى اليوم على النفخ في نار الفتنة المذهبية والطائفية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي برمّته، إنهم يفعلون ذلك بإحياء تاريخ ولّى لخلافات سياسية اجتهادية وليست دينية أو روحية في جوهرها، ولا تزال سياسات في المنطقة تغذّي العداء بين السُنة والشيعة وتبحث في الخلاف بين المالكية وباقي المذاهب وكذا الفرق وتضعها على محك الضلال أو النجاة.. لقد كشفت هذه الأوضاع عن تحديات تنتظر المسلمين جميعا وخاصة في مهبط الوحي والرسالة، وأن التحدي اليوم داخلي وخارجي، وأن الاستعداء الصهيوني وقوى الاستكبار الدولي يستفيد من هوان المسلمين وضعف مواقفهم كما حدث في غزة مؤخرا.. لقد فصلت الجماهير في نسبها وانتمائها وعبّرت عن رغبتها في تدارك هذا الضعف السياسي والعسكري والاقتصادي في مختلف الأقطار، ولم يشعر أحد من الذين غصّت بهم المدن والعواصم تنديدا بالحرب على غزة أنهم محسوبون على هذا المذهب أو ذاك أو هذه الفرقة أو تلك.. لقد تجاوزوا أعباء التاريخ الذي يراد لنا أن نظل أسارا له وفيه وأن الحكمة تقتضي الوحدة وأن التحديات تتلاحق ولا خيار إلاّ مقاومة مشاريع الهيمنة على المسلمين ومقدراتهم. " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون".