في شهر مارس من السنة الماضية، شاركت في ملتقى دولي من تنظيم منتدى الإصلاح العربي، ولأن موضوع الملتقى كان حول الأمن والتنمية في العالم العربي، فقد حضره، إلى جانب العديد من الباحثين العرب، بعض الجنرالات المتقاعدين من عدة جيوش عربية. ما أثار انتباهي، خلال مداخلات السادة الألوية الحاضرين، من مصر ودول الخليج، أنهم في تعرضهم للأخطار التي تواجه الأمة العربية كانوا يذكرون دولة إيران وأطماعها في المنطقة، وقد ذهب البعض إلى حد الحديث عن النووي الإيراني باعتباره من الأخطار التي سيواجهها العالم العربي في المستقبل القريب. جميل جدا أن تلتقي النخب العربية لتناقش قضايا الأمن والاستقرار في بلدانها، وأن تحاول هذه النخب، المدنية منها والعسكرية، استشفاف الأخطار التي قد تتعرض لها المنطقة العربية مستقبلا. كل هذا جميل، لكن بشرط أن تتميز النخبة، في بحوثها على الأقل، بالموضوعية التي تجعلها تلمس الأخطار الحقيقية التي تترصد الأمة العربية. ما لم أفهمه، كعسكري سابق، هو كيف يتصور هؤلاء العسكريون السابقون، ذوي الرتب القيادية، أن احتمال تمكن دولة إسلامية –مستقبلا- من التكنولوجيا النووية يعتبر تهديدا لأمن بلدانهم، ولا يقتنعون، في نفس الوقت، بأن إسرائيل التي تملك فعلا أكثر من 200 قنبلة نووية، باعترافها، لا تشكل خطرا ؟. طبعا، من جهتي لم أستسغ هذا الطرح الغير منطقي، ولم أسكت، إذ قمت، أثناء المناقشة، بتسجيل الملاحظة التالية: "السادة الحضور، سمعت في هذه القاعة من يتحدث عن الخطر النووي الإيراني الذي لازال مجرد مشروع في الأفق، ولم اسمع من يتحدث عن النووي الإسرائيلي الموجود فعلا، ثم هل يمكن أن نعتبر تمكن دولة إسلامية من السلاح النووي خطرا على الدول العربية؟" لم يرد أي أحد، في القاعة، عن تساؤلي، ولما رفعت الجلسة جاءني أحد المشاركين من دولة خليجية وحاول أن يشرح الأمر قائلا: "أنتم عرب المغرب العربي بعيدون جدا عن إيران لذا لا تشعرون بالخطر الفارسي على استقلال بلدانكم". وكان جوابي له: "إن فاقد الشيء لا يخاف عليه، فعندما تسلم دولة أراضيها للجيش الأمريكي يقيم عليها قواعد عسكرية ينطلق منها لضرب الدول العربية والإسلامية "المارقة"، لا أعتقد أنه يبقى أي معنى للحديث عن الاستقلال". تذكرت هذه الحادثة وأنا أتابع الأخبار القائلة بأن إيران أطلقت قمرا صناعيا من إنتاجها وأن الغرب متخوف من تحكم إيران في تكنولوجيا إطلاق الأقمار الصناعية والتي تعني، فيما تعنيه، تحكمها في تكنولوجيا إطلاق الصواريخ البالستيكية. لفهم أبعاد العداوة بين العرب، خاصة الخليجيين منهم، والدول الغربية تجاه إيران لابد من العودة إلى ما قبل 1978، أي إلى عهد الشاه. في هذا الزمن، كانت إيران من الدول الصديقة للولايات المتحدةالأمريكية التي كانت لها العديد من القواعد العسكرية في هذا البلد المحاذي للاتحاد السوفييتي وقتها. الجنرالات والخبراء الأمريكان كانوا يشرفون على تدريب وتسليح الجيش الإيراني، سادس أقوى جيش في العالم. المهم، العلاقات بين هذا البلد والغرب كانت أكثر من جيدة جدا. من جهته، الشاه، لم يكن لا ديمقراطيا ولا مؤمنا بحقوق الإنسان. لكنه أقتنع بضرورة تحديث إيران على النمط الغربي، فقام بعصرنة كل شيء، بما فيها الإباحية المطلقة، لكنه تغافل عن الأهم وهو النظام السياسي الذي بقي نظاما ديكتاتوريا يعتمد على جهاز مخابرات (السافاك) الذي يقال أن (الغاستابو) الهيتلرية لو كتب لها البقاء لكانت استفادت من خبرة الجهاز الإيراني. كل هذا كان يحدث على مرأى من العالم الغربي ومع ذلك لم يمارس أي ضغط على الشاه أو نظامه. عرب الخليج كانت لهم علاقات مميزة مع الجار الفارسي، ولم يشكُوا يومها من خطر القوة العسكرية الإيرانية. الدولة الوحيدة التي كانت في خلاف مع إيران هي العراق. في هذه الأجواء، قامت الثورة الإيرانية، 1979، التي أسقطت نظام الشاه وأعلنت عن ميلاد أول جمهورية إسلامية. الثورة الإيرانية، تعرضت منذ بدايتها إلى حصار اقتصادي من طرف الغرب، وبلغ الأمر بالولايات المتحدةالأمريكية حد تجميد الودائع الإيرانية ببنوكها، كما حاولت التدخل عسكريا لتحرير رهائنها لكنها فشلت ولم تتمكن من استعادة دبلوماسييها إلا بفضل جهود الدبلوماسية الجزائرية التي كانت تحظى بتقدير مميز من طرف قادة الثورة الإيرانية. سقوط شاه إيران أعتبر من طرف إسرائيل ومن طرف معظم الأنظمة العربية كزلزال هز المنطقة ككل. قيادة الثورة طردت الدبلوماسيين الإسرائيليين ومنحت مقر السفارة الإسرائيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية لتفتح فيها ممثليتها. عرب الخليج مع مصر والمملكة المغربية، اكتشفوا فجأة أن سكان إيران هم فرس (مع أنهم كانوا كذلك من عدة قرون)، وأن لهم أطماعا في المنطقة العربية، فشجعوا العراق على الدخول في حرب ضد هذا الجار الذي أصبح يخيفهم أسلوبه في الحكم ويزايد عليهم في مرجعيتهم الدينية. رغم انهيار دولة الشاه بكل مؤسساتها، ورغم الحصار والمحيط العدائي، استطاعت الثورة الإيرانية، في ظرف ثلاثين سنة فقط، من وضع أسس دولة جديدة. دولة لها مؤسسات ويحترم فيها مبدأ التداول على السلطة: الرئيس السابق خسر الانتخابات أمام شاب من أبناء الشعب. الفرس، يتصرفون وفق منطق الكبار. يختارون الأكفأ والأقدر لتولي المناصب ليس بقصد الاستفادة بل ليخدم الشعب الإيراني أكثر من غيره. هم لا يبذرون أموال البترول بل يستغلونها في بناء اقتصاد قوي، وفي تحقيق الاكتفاء الذاتي في كل شيء: من الغذاء إلى القمر الصناعي. يرفضون كل أنواع التدخل الأجنبي في شؤونهم ويتصرفون كدولة لها مصالح تدافع عنها. هنا يكمن جوهر الخلاف مع الغرب ومع العرب الذين يؤتمرون بأوامر الغرب. العرب، لازالوا في وضع سوق عكاظ، لم يخرجوا منه بعد. رموزهم باهتة وحكامهم لا يقرؤون. يكفي أن نشاهدهم على شاشات تلفزيوناتهم وهم يهجون، من الورقة، حتى أبسط الآيات القرآنية التي تحفظها العجائز الأمازيغيات في قرى ومداشر جرجرة أو الأوراس عن ظهر قلب. أنظمة الحكم العربية لازالت متخلفة يحكمها الولاء للحاكم. الكفاءة هي آخر شرط لتولي أي منصب. الاقتصاديات العربية لا تخرج عن اقتصاد البازار. الحكام يتباهون باستيراد أنواع الأزهار النادرة. يشترون الألقاب العالمية بملايير الدولارات. يقضون جل وقتهم في ميادين السباق حيث جعلوا لكل حيوان مهرجانا وجائزة. بلغ بهم البذخ والتبذير حد إنشاء قناة تلفزيونية، مع ما تكلفه من أموال، خاصة بالجمال (من جمع جمل)، وأخرى خاصة بالشعر.. وعشرات من القنوات الخاصة بهز البطن وكل أنواع الفساد الأخلاقي. يمنحون الهدايا الثمينة للأجانب الذين يضحكون على كرمهم الصادر عن غباوة لأن الحاكم الغربي لا يستطيع أن يمنح غير هدية رمزية. العرب يتصرفون كما كان يتصرف الشاه. إنهم يعصرنون كل شيء: من المراحيض إلى الطائرات الضخمة، بل منهم من رفع شعار: نحن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. لكن الآخرين حققوا ما حققوه بفضل نظام سياسي متطور وحكام على قدر كبير من الكفاءة والرشادة. على هذا المستوى يكمن، للأسف، كل الفرق بين الفرس وبين العرب.