بقلم الدكتور العربي الزبيري /: لقد تعلمنا من أساتذتنا الأجلاء ، الأموات منهم والأحياء، أن الحرف سلاح والكتابة مسؤولية، ولذلك كانت وصيتهم دائما:" إذا حدثت ففتش وإذا كتبت فقمش وإذا ألفت فهمش ".وتأكدنا، من خلال التجربة، أن العمل بهذه الوصية يضفي على الكتابة صدقا وموضوعية وعلى صاحبها وقارا واحتراما. ولا نضيف شيئا إذا قلنا إن الخائض في علم التاريخ مطالب ،أكثر من غيره، لتقديم الدليل القاطع على صحة ما يورده من معلومات، والإتيان بالحجة الدامغة لتبرير ما يطرحه من أفكار وآراء، وما ينشره من قضايا أساسية حول موضوعات قد تتعدد فيها الروايات وتتكاثر الأقلام لقرع أبوابها بحثا عن الحقيقة أو عملا على تغييبها لسبب من الأسباب وما أكثرها إن الذي فرض هذه التقدمة هو ما نشر على أعمدة جريدتي الخبر وصوت الأحرار من معلومات لا أساس لها من الصحة حول :" قراءة في كتاب عبد الناصر والثورة الجزائرية"لصاحبه السيد فتحي الديب والذي نشرته دار المستقبل العربي سنة 1984 . ويؤلمني ، هنا، القول إن كل الأخبار والتعاليق التي وضعت ، حتى الآن ، تحت أنظار القراء لم تراع قواعد النزاهة في الكتابة ولم تصدر عن مختصين في علم التاريخ . وقبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أن " قراءة في كتاب عبد النصر والثورة الجزائرية" لم يصدر في طبعته الأولى هذا العام حتى يسعد بصدوره الدكتور محي الدين عميمور الذي راح يبحث في التراث الغربي لتبرير التأخر في القيام بالعمل . ولعلم القراء ، فهذه هي الطبعة الثالثة .أما الأولى والثانية فتحملان تاريخ 2000 و2004 أي قبل أن ينتقل العقيد فتحي الديب إلى رحمة الله . وكان يمكن أن يصدر الكتاب في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ، لكنني أحجمت عن تقديم المخطوط إلى الطباعة للأسباب التالية : أ- إن مجرمي الحرب من الضباط السامين في جيش الاحتلال قد نشروا عشرات الكتب قصد تبرير عمليات الإرهاب والإبادة التي قاموا بها خلال فترة الكفاح المسلح ،ووجدت تلكم الكتب طريقها بسهولة إلى قراء اللغة الفرنسية الذين أصبحوا يعتبرونها مصادر ومراجع تعتمد حتى في ميادين البحث العلمي ولم تحرك السلطات الوطنية ساكنا لمنع ذلك،علما بأن كتاب السيد فتحي الديب لا يمثل سوى قطرة من بحر عندما نقارنه بإنتاج الإرهابيين الذي شمل فنون المذكرات والدراسات والشهادات والذي وجد تشجيعا كبيرا لدى غلاة الاحتلال السابق الذين لم يتوقفوا حتى الآن عن التخطيط لمحو آثار ثورة التحرير في بلادنا . وما دامت الأقلام الوطنية جامدة ،وما دامت إطاراتنا السامية نفسها تروج للكتابات الاستعمارية المغرضة ، فلماذا لا نقبل من السيد فتحي الديب هفواته ومغالطاته التي ، من الأكيد ، أنه لا يقصد من خلالها تقزيم الثورة بقدر ما يسعى إلى إعطاء نفسه حجما أكبر من حجمه الحقيقي ،إذ، مهما يكن من أمر،فإنه يبقى واحدا من الأشقاء الكثيرين الذين ساعدوا بعض قادة الثورة على تأدية مهامهم الصعبة خاصة في مجال جلب الأسلحة الأولى إلى الجزائر الثائرة. ب- إننا ، دائما، نوجه اللوم لإخواننا فيء المشرق العربي على أنهم لم يولوا العناية الكافية بثورة نوفمبر ، ولقد رأيت ، يومها، في كتاب السيد فتحي الديب ، على ما فيه من نواقص ، مبادرة يجب تشجيعها لعل الشخصيات العربية التي شاركت بطريقة أو بأخرى في كفاح الشعب الجزائري ، وما أكثرها ، تسارع إلى تقديم شهاداتها ومذكراتها التي هي أساسية لتسليط الأضواء على المساهمة الحقيقية التي قامت بها الجماهير العربية في عملية استرجاع الجزائر لاستقلالها الوطني . ج-إن السلطات المعنية في بلادنا لم يبد الاهتمام اللازم بكتابة التاريخ وإعادة كتابته ،بل إن المؤسسات الرسمية التي أنشئت بمراسيم ورصدت لها موازين خيالية لم تقم بواجبها ولم تجد رقيبا لأعمالها بسبب إسناد تسييرها إلى غير ذوي الكفاءات من المتخصصين والمثقفين العاملين . كانت هذه هي الأسباب التي جعلتني ألقي القلم جانبا وأترك "قراءة في كتاب عبد الناصر وثورة الجزائر" ينام على الرف .وما كنت لأقدم على دفعه للطباعة، سنة 2000، لولا تركيز وسائل الإعلام ، في نهاية التسعينيات، على تاريخ وعدم تردد كل من هب ودب على إلقاء دلوه بين الدلاء ، وظهور كثير من الاستعداد لدى جماهير الشعب للتلقي ولدى بعض الجهات للنشر من دون أدنى رقابة أو فرز. وعندما أعود إلى انطباعات الدكتور محي الدين المنشورة يوم السبت الماضي على أعمدة صوت الأحرار ، فإنني أبدا بملاحظة تتعلق بالمنطق وأصوغها في شكل سؤال بسيط جدا هو: كيف يمكن التوفيق بين قوله :" لن أتوقف بالتفصيل عند القضايا التي أثارها كتاب الزبيري قبل أن أقرأ الكتاب وأتأكد من المراجع التي اعتمد عليها المؤرخ الجزائري" وقوله في فقرة أخرى من ذات المقال :" وهنا تتناقض معلوماتي مع ما أورده الأستاذ الزبيري " ؟. فإذا لم يكن قد قرأ الكتاب فكيف يعرف ما ورد فيه حتى يقارنه بمعلوماته ؟. والملاحظة الثانية تتعلق بحقيقة تاريخية مربوطة بالحديث عن المناضل السياسي المثقف الشاذلي المكي.وهنا لا يسعني سوى التأكيد على أن الدكتور يكتب أحيانا لمجرد الكتابة فقط، ذلك أن كل من قرأ ما كتب حول ثورة التحرير يعرف أن كثيرا من المناطق سواء داخل البلاد أو خارجها إنما شرعت في الكفاح المسلح باسم الحاج مصالي ولم تتفرد به جبهة التحرير الوطني إلا بعد استشهاد الجنرال محمد بلونيس قائد الجيش الوطني الشعبي الذي أنشأته الحركة الوطنية الجزائرية وهي التسمية التي أطلقها رئيس حزب الشعب الجزائري على تشكيلته السياسية الجديدة. وعليه، فعندما يذكر عميمور أن "جبهة التحرير الوطني كانت تمثل واقعا ميدانيا ، أما الشاذلي المكي وأحمد مزغنه ومن يتحدثون باسمه فلم يكن لهم وجود على أرض الصراع العسكري مع القوات الفرنسية " فادعاء غير صحيح . أما عن سبب اعتقال السيدين أحمد مزغنه والشاذلي المكي، فيجب إرجاع القارئ إلى البداية، أي إلى الاتفاق الذي حصل بين ممثلي مختلف التيارات السياسية الجزائرية في القاهرة والذي أقر تشكيل "جبهة تحرير الجزائر" بدلا من وجبهة التحرير الوطني.فعلى إثر الإتفاق المذكور، تعهد كل طرف بتعميم الميثاق المصادق عليه والشروع في تطبيقه فورا وهو ما جعل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يوجه إلى الشعب الجزائري باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، يوم 17/02/1955 ، بيانا يدعو فيه جماهير الشعب الجزائري إلى الجهاد في سبيل تحرير البلاد. وبما أن أحمد مزغنه والشاذلي المكي لا يملكان حق القرار قبل الرجوع إلى رئيس الحزب، فإنهما حملا جميع الوثائق وقررا السفر إلى باريس. ولا يمكن ،أبدا ، أن يكون الشاذلي المكي، وهو واحد من الموقعين على النصوص الأساسية المثبتة لوحدة الكفاح، قد فكر في الذهاب إلى" باندونغ" لتكريس الشقاق الذي كان قائما قبل قرار التوحيد . وعن الحكم الغيابي أو الأحكام الغيابية التي صدرت ضد المناضل الشاذلي المكي،فإنها لم تكن لتمنعه من التوجه إلى باريس متنكرا أو حتى بهويته الحقيقية لأن القضاء الفروض، في الجزائر ، على الأهالي كان ، في كثير من مجالاته متناقضا مع القضاء الفرنسي الذي من قواعده الأساسية احترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة . ولنا أمثلة كثيرة تؤكد أن مسئولين سياسيين ومناضلين خاصة من حزب الشعب الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانوا ينشطون في فرنسا بعد أن صدرت ضدهم ، في الجزائر ، أنواع من الأحكام الاستبدادية الظالمة . ومن دون الإطالة في مناقشة هذه المسألة وحتى نعطي للقارئ فرصة الحكم بنفسه على معطياتها نورد فيما يلي ، حرفيا، ما كتبه السيد فتحي الديب في الصفحة السابعة والسبعين من كتابه : " لم يكن مداد الميثاق الذي وقعه ممثلو مصالي الحاج قد جف بعد وإذا بنا نعلم أن ثلاثي مجموعة مصالي بدأ في القيام بالعديد من الاتصالات للتخريب على الثورة واعتزامهم السفر إلى ليبيا وفرنسا تحت شعار جبهة التحرير لبث التفرقة وتشكيك الجزائريين بقادة الثورة. وحاولوا إيهامنا بقرارهم السفر لإقناع عناصرهم بالاندماج تحت لواء جبهة التحرير الوطني .واجتمعنا على الفور بالأخ أحمد بن بله لدراسة الموقف وانتهينا إلى خطورة ما يمكن أن يقدموا عليه ضد الثورة، وطلب منا ابن بلا سرعة التدخل لعدم تمكينهم من الوصول لا إلى ليبيا أو فرنسا وهم: أخمد ميزغنة وعبد الله الفيلالي والشاذلي المكي. ورغبة منه ومنا في عدم اللجوء إلى التصفية الجسدية قررنا اختطافهم من الطائرة بعد تحركها للإقلاع والتحفظ عليهم تحت حراسة مشددة لمنع اتصالهم بالخارج بأية صورة .وعاوننا في ذلك اليوزباشي حسين حافظ رئيس حرس الجمارك بالمطار وتمت العملية بنجاح وفي سرية تامة دون أن يشعر بها مودعوهم بالمطار وذلك بالنسبة لأحمد ميزغنة والشاذلي المكي وتم نقلهما إلى أحد السجون الحربية ...أما عبد الله الفيلالي فقد سافر إلى ليبيا قبل قرارنا التحفظ عليهم،وأرسلنا برقية باسم ميزغنة والشاذلي إلى معاونيهما بالقاهرة تفيد وصولهما سالمين ، وهكذا تم إبعاد مصالي عن الميدان نهائيا وقضينا غلى مؤامرتهم التخريبية ". أما الذي لم يطلع عليه الدكتور، لأنه لم يقرأ بعد ما كتبته ، وهو غير ملوم في ذلك لأن الطبعة الجديدة مازالت في المخازن ومن يدري لعلها ستفنى هناك،فأنا شخصيا لم أرها إلى غاية كتابة هذه الأسطر، ومن حق القراء أن يعجبوا من احترام بلادنا لحقوق التأليف . فما لم يطلع عليه هو رأيي الخاص الذي عبرت عنه كالتالي : وباختطاف المسئولين المذكورين قضي ،نهائيا، على إمكانيات التصالح بين حركتين وطنيتين ولدتا من صلب واحد ، وأعطيت الإشارة للبدء في إراقة دماء الأشقاء بفرنساوالجزائر على حد سواء ، ولو أن مزغنه والشاذلي لم لم يحبسا وتمكنا من الوصول ، فعلا ، إلى فرنسا ونقلا إلى قادة " الحركة الوطنية" وإطاراتها ومناضليها حقيقة ما جرى في القاهرة لسلم أفراد الأسرة الواحدة من نلك المأساة الدموية التي ذهب ضحيتها آلاف القتلى من خيرة أبناء الشعب الجزائري ، ولما حدثت في صفوف الوطنيين المخلصين تلك القطيعة التي ما زالت آثارها السيئة تحول دون التلاقي والوئام بين الأشقاء الذين نهلوا من مشارب واحدة استعدادا للتضحية القصوى في سبيل تقويض أركان الاحتلال واسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة . هذا وقد وردت في الانطباعات نقاط أخرى تستحق كثيرا من التوضيح لكن هذه المساحة لا تسمح بذلك فمعذرة للقراء .