الدكتور جورج زكي الحاج، أستاذ الأدب العربي بجامعة لبنان وبمعهد الآداب والعلوم الإنسانية بلبنان، له العديد من الدراسات والكتب في شتى مجالات الأدب والسياسة، هو شاعر أيضا ورئيس هيئة الأساتذة الجامعيين في التيار الوطني الحر.. "المساء" التقت به أثناء مشاركته في ملتقى الأدب الشعبي الذي أقيم مؤخرا بالجزائر وأجرت معه هذا الحوار: - تحدّثتم سابقا عن وجود لغات عربية وليس لهجات، حدثونا عن ذلك؟ وإن كان هذا الأمر صحيحا، فلماذا هناك صعوبة في التواصل بين العرب؟ * قلت في مداخلتي أنّها لغات وأعي ما أقول، في القديم كانت هناك لغات، فكان يقال لغة قريش ولغة ذبيان ولغة ربيعة، وكان هناك فرق بسيط بينها فكانت حقا لغات متقاربة من بعضها البعض، وعلى الرغم من هذا التقارب كانت تسمى لغات، فكيف الحال اليوم حيث لكلّ بلد لهجات؟ صحيح أنّ اللغة العربية لغة جامعة وأنا لا أمانع في ذلك، ولكن ما يمنع أن تصبح العامية المصرية لغة جامعة بعد انتشارها بالشكل الذي وصلت إليه في كلّ المناطق العربية عن طريق السينما والأغنية والمسرح؟ ماذا يمنع اللغة اللبنانية التي أتت من المسرح الرحباني وعمّت الكثير من الدول العربية، من أن تصبح فيما بعد لغة لمختلف الدول العربية ويفهمها الجميع؟ اليوم، لا أستطيع أن أتفاهم بعاميتي مع عامية الموريتاني ولا مع عامية الجزائري، إذن فلو كانت لهجة لما كانت كذلك، أي أنّ الجزائري العاصمي تختلف لهجته عن ابن وهران، وهنا يمكن أن تكون لهجة ولكن أن تختلف معي حتى في أسلوب الكلمات، يعني أنّها لغة، فأنا لا أستطيع كلبناني أن أفهم كلمة "بزاف" التي لا وجود لها حتى في عربيتي، إذن هذه لغة قائمة بذاتها، ولنكن صريحين، لماذا نخجل ونحاول تزوير الحقيقة، ألأنّ اللّغة العربية واحدة؟ نحن لا نعارض ذلك، فاللغة العربية مقدّسة، ولكن هذا لا يمنعنا من وضعها جانبا والتحدّث في أمور أخرى، نعم كلّ بلد عربي له لغته، حتى أنّ 90 بالمائة من المفردات متقاربة مع بعضها البعض في كلّ من سوريا، لبنان وفلسطين. - لكن كيف تصبح اللغة عالمية؟ * للإجابة على هذا السؤال، أعطي مثالا، وأقول أنّ المصريين كدّوا واجتهدوا على لغتهم من خلال الفن، واليوم الإنسان المصري يستطيع أن يتكلّم بالمصرية في كلّ البلدان العربية والكثير من الناس يفهمونه، وأصبحت هذه اللغة على المستوى العربي مفهومة، وأنا في الجزائر أسمع الكثير يردّدون أغاني فيروز ووديع الصافي وغيرهما ويعرفون معنى الكلام، عندما تتعمّم هذه المسائل على الشعوب بصورة مستديمة ويكون هناك جزء من القيّمين أكانوا من المجتمع المدني أو من المجتمع الرسمي، تصبح لغتي أنا كلبناني لغة عربية عالمية، ونفس الشيء بالنسبة للمصرية والجزائرية، يجب أن يكون هناك تواصل بين الدول العربية وإلاّ لا يمكن أن تصبح اللغة حتى المحلية أكثر محلية، بل تكون في إطار ضيّق جدا. - ألا تهدّد هذه العاميات اللغة العربية الفصحى؟ * لا أبدا، التاريخ يتّسع للجميع، هذا ما قلته في أكثر من كتاب، فالصراع بين الفصحى والعامية وبين القديم والحديث قديم جدا، العامية أيضا ليست لغة حديثة وكثيرون من الكتّاب والباحثين يقولون أنّ اللغة العامية قديمة العهد ربما تكون مع الفصحى وربما قبلها، وفي هذا السياق قال جون لوسار في كتابه عن الشعر العربي العامي، أنّ اللغة العربية نوعان، واحدة أتى بها القرآن الكريم والثانية يتحدّث بها عامة الناس، وهناك الكثير من الأدباء العرب كإبراهيم الحوراني وأمين نخلة، وحتى المقريزي نفسه، قالوا بدورهم أنّ العامية موجودة منذ زمن بعيد، وأضيف أنّ الفصحى ليست ركيكة إلى هذا الحد حتى تنهار أمام أيّة حركة رغم كلّ المعاناة التي تعانيها، والمصرية انتشرت كثيرا، حيث أنّ هناك آلاف الدواوين بالعامية لم تؤثّر على الفصحى، فبقي الأزهر مرجعا ومجمع اللغة العربية كذلك، إضافة إلى لبنان التي تفاخر بضمّها عددا لا يحصى من الأدباء، لديها شعر عامي جيّد جدا، وبقي من يتكلّم الفصحى جيّدا، وأقول إذا تعلّمنا اللغة الفرنسية فهل ستؤثر على لغتنا الإنكليزية؟، لا، هي مجرد تخويفات، ونحشر كلّ الأمور حتى في الدين وهو خطأ كبير. - العامية تتغيّر دوما، فهل يجب وضع قاموس للحفاظ عليها؟ * أبدا وإلاّ لما أصبحت عامية، العامية نهر متدفّق ونحن لا نشرب من مياه النهر مرتين وكل يوم فيه شيء جديد، مثلا العامية الجزائرية من عشرين سنة كان فيها الكثير من الفرنسية، اليوم فيها من الفرنسية وغير الفرنسية وغدا ستدخل عليها مفردات أخرى، هذه هي العامية، فهي دائمة التغيّر، فإذا وضعت لها قواعد وقواميس ستفقد عفويتها وحركيتها وعاميتها. - وهل تطالبون بأن تكون العامية لغة رسمية؟ * أنا لا أريد أن تحل العامية محل الفصحى. - تريدها إلى جانب الفصحى؟ * نعم، أنا مثلا دكتور في آداب اللغة العربية ودافعت كثيرا عن الفصحى ولدي ما يقارب عشرين كتابا بالفصحى، فكيف أقبل أن تحلّ لغة محل لغة أخرى، هذا خطأ ويعود إلى خلفيات سياسية وعرقية ودينية الخ... لكن لا يجوز بأيّ وجه من الوجوه أن تقف العربية ضدّ تطوّر العامية أو أن تكون عبئا عليها، قلت في أحد كتبي أنّني أرى العربية والعامية فتاتين إحداهما شقراء وأخرى سمراء، وفي كلّ واحدة صفات تميّزها وتجعلك تحبها. - هل تعتبرون الفصحى الزوجة الأولى والثانية ضرتها؟ * لا، فليست الفصحى الزوجة الأولى، لأنّ السياسة جعلتها كذلك ولا الثانية ضرّة لأنّ السياسة جعلتها كذلك أيضا، هناك شعر في العامية يفوق بآلاف المرات مستوى الشعر بالفصحى، وأؤكد أنّ 85 بالمائة من شعر الفصحى يمكن أن يرمى في البحر ولا يحزن عليه، بيد أنّ هناك قصائد في العامية تفوق بروعتها قصائد كبار شعراء الفصحى، وأنا أحكي عن العامية المتطوّرة كاللبنانية، مثل شعر سعيد عقل أو ميشال طراد أو الرحباني، حتى أنّ هناك شعراء مثل أسعد سابا واسعد سبلي، نزلت أسماؤهم في قاموس "لاروس" وهم لا يعرفون الكتابة بالفصحى، فهم شعراء عاميون فقط، لكنهم طرحوا أفكارا عالمية. - ما هو دور الأدب الشعبي في الوضع الراهن الذي تعيشه الدول العربية؟ * الأدب الشعبي أدب كسواه من الآداب والفنون التي تقوم في أيّة دولة من الدول، وتبرز أهميته هذه الأيام في الحفاظ على الهوية والأصالة وخصوصية الشعوب، خاصة في مواجهة ما يسمى العولمة، التي إذا نجحت ووصلت إلى مبتغاها بعد عدد من السنوات، فإنّها ستصهر الثقافات العالمية ببعضها البعض الآخر، وهذا ما يخوّف الإنسان الذي يخشى من أن يذوب في المجتمع العالمي، فتذوب معه الهوية التي يمتلكها. أعتقد أنّ الأدب الشعبي يمكن أن يكون السدّ الأقوى في مواجهة العولمة، لأنّ الإنسان يستطيع في هذا المجال أن يحافظ على شيء من خصوصياته وذاتيته، ويبقى في علاقة حميمية بينه وبين ذاته دون أن تكون هذه العلاقة علنية. - هل حقا يستطيع الأدب الشعبي مواجهة العولمة وهو الذي يقال عنه أنّه "أدب ولىّ عصره"؟ * نعم، يمكن ذلك، فالشعر الشعبي يواكب الحياة يوما بيوم، وكلّ دولة لها شعرها ولغتها وفي كلّ دولة أيضا هناك نوعان من الشعر، الشعر الذي يكتب باللغة الرسمية والشعر الذي يكتب بلغة أهل البلاد، وحتى هنا في الجزائر الشعر الذي يكتب في الأغواط يختلف عن الشعر الذي يكتب في منطقة تبعد ألفي كلم مثلا عن الأغواط، وهذا في دولة تفوق مساحتها المليوني كلم مربّع حيث نجد فيها أنماطا مختلفة من الشعر. الشعر الشعبي ليس موضة قديمة، بل يواكب الإنسان يوما بيوم، أمّا عن مواجهته للعولمة، فتكون من خلال علاقة هذا الشعر بذاتية الإنسان، هناك كثيرون من شعراء اليوم يدعون أنّهم بدأوا يكتبون قصيدة نثرية وقصيدة حديثة، ولست أدري الأسماء التي يطلقونها والتي لا أعترف بها، الشعر الشعبي لا يكتبه إلاّ من كان موهوبا به، كما أنّه يحاول دائما أن يماشي العصر، وأعتقد أنّ مماشاته للعصر هي إحدى الوسائل التي يمكن له أن يوالي بها العولمة، العلاقة بين الثقافة الشعبية وذاتية الإنسان هي كالاقتراع في الغرفة السرية، هناك تبقى صادقا مع نفسك، أيضا في الشعر هناك صدقا مع النفس ومهما استطاعت العولمة أن تنفذ إلى الكثير من الأمور، أعتقد أنّها عاجزة على النفاذ إلى روحية الإنسان. - كيف يمكن للمفكر العربي أن يقوم بدوره في الوضع الراهن للدول العربية؟ * أوّلا هناك خلاف عميق وصراع كبير بين السلطة الثقافية والسياسية، أنا أختصر هذا الكلام بما كتبته في أحد كتبي، حيث تساءلت: "كيف يمكن لمثقف لا يملك سلطة أن يتعامل مع سلطة لا تملك ثقافة؟"، هذه الأنظمة العربية التي تحاول دائما أن ترفع شعار رئيس إلى الأبد، ملك إلى الأبد، أمير إلى الأبد، هو واقع لا يمكن أن يتّفق مع واقع الثقافة، وأنا أجد أنّ هناك تقصيرا كبيرا من المثقفين العرب في مناهضة هذه الأمور، المثقف ينتقد في زوايا المقاهي ويهمس همسا حتى لا تسمعه المخابرات، ولكنه في لبنان، ولا أقول هذا لأنّني لبناني، المثقف اللبناني يستطيع أن ينتقد في كتاباته المسؤول، ولكن هذا الشكل لا يكفي لتحويل الحركة السياسية إلى حركة منحازة إلى الثقافة، فمسكين المثقف العربي تّجاه السلطات، ولا أعتقد أنّ ما يقوم به هو دور فعّال، ولا أن يستطيع أن يقوم بدور اكبر من ذلك. - إذا كان المثقف اللبناني بهذه الحرية، فهل استطاع أن يحلّل الوضع السياسي في البلد؟ * أكيد، لذلك نجد أنّ اليوم بدأ التفريق في لبنان بين من يسعى إلى بناء دولة لبنانية مستقلة وبين من يحاول أن يبقيها مزرعة، مثلا هناك قوتان في لبنان، قوّة عرفت في فترة من الفترات، هي قوة المعارضة تجمع شخصين، الجنرال ميشال عون ونصر الله، يجمعون 60 الى 70 بالمائة من الشعب اللبناني، وقوة ثانية اسمها " 14 آذار" وتجمع 24 شخصا اجتمعوا لكي يقاوموا هذين الشخصين، يعني شخص واحد يجمع ما يستطيع أن يجمعه 30 شخصا، فمن الذي يملك الحق؟ هو هذا الشخص بالطبع، وهنا يظهر دور المثقف، حيث نلاحظ أنّ معظم المثقفين انحازوا إلى جهة معينة، بين من يريد بناء دولة وليس من يريد أن يستمر في الدولة كمزرعة، خصوصا أنّها مجرّبة في الحكم منذ ثلاثين سنة وأثبتت أنّها فئة فاشلة. - وأنتم رئيس هيئة الأساتذة الجامعيين في التيار الوطني، ماذا تقولون عن تسييس المثقف، أو هل يفقد المثقف خصوصياته إذا تسيّس؟ * أبدا، فالثقافة في حدّ ذاتها في خدمة السياسة والعكس صحيح. - لكن ماذا لو تحزّب هذا المثقف؟ * هذا نوع من الثقافة اسمه "ثقافة المواجهة"، فإذا أخذنا ثقافة الشيوعي فهي ثقافة مواجهة ضمن التيار الشيوعي، كمؤلفات ماركس ولينين، وهناك المثقف الليبرالي وهناك أيضا ثقافة هدّامة وثقافة بنّاءة. برأيي المثقّف أكبر من أن يدخل متاهات السياسة، خصوصا إذا كانت السياسة المحلية، أنا مع المثقف في أن يكون مع السياسة كعلم وليس ضمن السياسات، وهنا المثقف لا يتسيّس، بل يصبح أكبر بكثير من مفهوم السياسة، ولكن عندما يأتي المثقف ويسخّر ثقافته الواسعة في سبيل فلان أو علان فهنا يفقد ثقافته وشخصيته.