أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال دولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير، وبهذا القرار يكون العرب قد أصبحوا في مواجهة نظام دولي يستعمل كل الأدوات القانونية والسياسية من أجل تنفيذ سياسات الدول الكبرى عندما كانت المحكمة الجنائية تستعد لإصدار قرارها الخطير كانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون تجلس إلى المسؤولين الإسرائيليين مجددة دعم بلادها لإسرائيل والتزامها بحماية أمنها، وحتى يشعر العالم، والعرب خاصة، بأن أمريكا جادة في التزامها، قالت كلنتون إننا ملتزمون بدعم أي حكومة إسرائيلية قادمة، وهذه إشارة واضحة إلى أن الإسرائيليون جميعا يحظون بالدعم الأمريكي سواء كانوا معتدلين أو متطرفين، وبالنسبة لمئات الملايين من العرب والمسلمين فإن تصريحات كلنتون هي تزكية للإجرام الصهيوني ودعم لدعاة الإبادة الذين ينادون علنا بإلقاء الفلسطينيين في البحر لأنهم يعتقدون أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت. وقبل أن تصبح كلنتون وزيرة للخارجية في الإدارة الجديدة التي يقودها الرئيس باراك أوباما، كانت إسرائيل ترتكب محرقة حقيقية في قطاع غزة، وقد أبادت خلال أقل من شهر مئات الأطفال والنساء والشيوخ العزل، واتخذت أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني رهائن من خلال محاصرتهم ومنع كل أسباب الحياة عنهم، وقد قدم ممثلون للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية دولية قرائن وأدلة دامغة على جرائم الحرب التي ارتكبها المجرمون الصهاينة، وقد واجهت تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل تهما بارتكاب هذه الجرائم عندما سافرت إلى أوروبا وأمريكا خلال فترة الحرب والأيام القليلة التي تلتها. كل هذه الجرائم التي دفعت الملايين إلى التظاهر في كل أنحاء العالم لم تكن كافية لتوجيه مجرد لوم بسيط لإسرائيل، ورغم أن صورة الدولة العبرية تضررت بشكل واضح لدى الرأي العام الغربي والنخب الإعلامية والمثقفة، فإن إسرائيل لم تواجه أي شكل من أشكال اللوم على المستويات الرسمية ومن طرف المنظمات الدولية غير الحكومية، وحتى التقارير التي صدرت إلى حد الآن نحت باتجاه المساواة بين الجلاد والضحية من خلال جعل إبادة المدنيين مجرد نتيجة حتمية لصراع بين حماس وإسرائيل لم يلتزم فيه الطرفان باحترام قواعد الاشتباك التي تحمي المدنيين. يمثل هذا الموقف المتواطئ مع إسرائيل أحد أسباب الإحباط التي يشعر بها مئات الملايين من العرب والمسلمين تجاه الهيئات الدولية والقوى الكبرى المتحكمة فيها، وهو موقف يدفع إلى حافة اليأس ويعطي مزيدا من المصداقية للأطروحات الداعية إلى نفض اليد بصفة نهائية مما يسمى المجتمع الدولي والشرعية الدولية، ولعل التنظيمات المسلحة تجد من الأدلة على صدق دعوتها إلى استعمال كل الوسائل، وأولها العمل المسلح، من أجل مواجهة هذه الهيمنة الأمريكيةوالغربية التي تتخذ من القانون الدولي والمنظمات الدولية غطاء لتنفيذ سياساتها. في مقابل هذه التزكية للجرائم الصهيونية تحركت المحكمة الجنائية الدولية لتوجه ضربة قاصمة لكل جهود إحلال السلام في دارفور من خلال إصدارها لمذكرة اعتقال دولية في حق الرئيس عمر البشير، وحتى إذا كان القرار غير ذي معنى من الناحية العملية ولا يغير شيئا على الأرض، فإنه يمثل إشارة خطيرة من جانب هذه المحكمة في اتجاه العرب والمسلمين تحديدا، فالمحكمة تصرفت على خلفية سياسية وبإيعاز من الدول الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة والدول الغربية، وهذه الأطراف سعت منذ سنوات إلى تأجيج الصراع في دارفور من خلال الدعم الذي تقدمه للمتمردين والتغطية على جرائمهم هناك، وقد عجزت الهيئات الدولية على إرغام المتمردين على الجنوح للسلم رغم تهديداتها المتكررة لهم. لعل أهم التناقضات التي اعترت قرار المحكمة الجنائية وكشفت طابعه السياسي، هي كونه جاء بتزكية من الدول الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةوفرنسا وبقية الدول الأوروبية، غير أن عدم اعتراف الولاياتالمتحدة بالمحكمة وإصرارها على توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول كثيرة من أجل منع تسليم مواطنيها، وخاصة جنودها المتابعين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، لهذه المحكمة، يضعف مصداقية موقف مجلس الأمن الذي تعتمد عليه المحكمة كغطاء لتوجيه الاتهام، ثم إن محاولات الابتزاز التي مارستها فرنسا وبعض الدول الأوروبية من أجل أن يسلم السودان اثنين من مواطنيه مطلوبين للمحكمة مقابل عدم إصدار مذكرة باعتقال الرئيس البشير، يفضح الطابع السياسي لموقف الحكم، ويؤكد حقيقتها كأداة في يد القوى الكبرى التي تسعى إلى الضغط على السودان. المستهدف بمذكرة المحكمة الجنائية الدولية ليس شخص الرئيس عمر البشير، فقد سبق أن وجه مجرم الحرب الأكبر جورج بوش إنذارا للرئيس العراقي السابق صدام حسين يطالبه فيه بالتخلي عن السلطة ومغادرة العراق هو وعائلته كشرط لعدم غزو العراق، وعندما سئل بوش إن كانت استجابة صدام حسين لهذا النداء ستؤدي إلى التخلي عن الغزو قال "في كل الأحوال سندخل العراق"، فالهدف هو تفكيك الدولة، وهو نفس الهدف الذي حرك المحكمة الجنائية الدولية، فالسودان بالنظر إلى إمكانياته يمتلك أسباب القوة والهدف هو تقسيمه إلى مجموعة من الدول، وهو نفس المشروع الذي طرحه المحافظون الجدد بخصوص السعودية بعد هجمات الحادي عشر سبتمبر، ويمكن أن يسحب المشروع على أكثر من دولة عربية، خاصة تلك الدول التي تملك مساحة شاسعة وثروات طبيعية مهمة وقوة بشرية كبيرة. يتوقع الغرب أن يشكل قرار المحكمة الجنائية الدولية حافزا للمتمردين لتصعيد العنف، وأكثر من هذا يتوقع من القرار أن يكون بداية لحالة من الاضطراب الداخلي قد يمهد لعملية التدخل الخارجي التي تهدف في النهاية إلى تقسيم السودان الذي يعاني أصلا من مشروع انفصالي في الجنوب وآخر في دارفور، ومن هنا فإن الهدف لن يكون اعتقال الرئيس البشير ولا الإطاحة بالنظام السياسي القائم بل هو تفكيك الدولة السودانية والقضاء عليها ككيان موحد يسيطر على هذه المساحة الشاسعة والغنية بالثروات الطبيعية والمرشحة للعب دور حاسم في الأمن الغذائي العالمي مستقبلا. بقي أن نعرف كيف ينظر العرب إلى هذه المخاطر الجسيمة التي تحيق بهم، فعدم استقرار السودان يمس مباشرة بالأمن القومي المصري فضلا عن آثاره المدمرة على الدول العربية الأخرى والدول الإفريقية، ومن المؤكد أن الأمر لا يتعلق بالتعاطف مع شخص البشير أو مع شعب السودان بل بالدفاع عن وجود العرب ومستقبلهم الذي تستهدفه قوى الاستكبار العالمي التي حولت القانون الدولي إلى مجرد سيف يسلط على رقاب المستضعفين ولا يسل أبدا في وجوه كبار المجرمين وأعداء الإنسانية.