القصص التي سأرويها فيما يلي هي قصص واقعية ولا دخل للخيال فيها إلا بما يقتضيه السرد القصصي والحبكة الدرامية -إن كنت فارسا في ذلك - قصص مستمدة من الواقع المعاش، وكنت فيها إما بطلا أو ضحية•• شاهدا أو راوية عن سماع•• بعضها مثير للضحك وربما السخرية، وبعضها مثير للسخط وربما الاشمئزاز•• وبعضها الباقي يبعث على التأمل والتدبر والتفكير• "الأعمار بيد الله" ما من شك في ذلك لكننا في بعض الأحيان وفي غمرة تزاحم الأحداث، وتداخل الحوادث اليومية الشخصية والوطنية والعالمية•• ننسى مثل هذه البديهة وعندما نصطدم بحادث من نوع خاص نعود إلى إدراك بعض البديهيات والمسلمات والحقائق التي لا تقبل الجدل• حدث أن ملكت عصفورا من نوع الكناري بعد أن ألقى عليه القبض ابني نزار في الشارع قرب المنزل، يظهر أن هذا العصفور كان سجين أحد الأقفاص، وحين غفلة من كاسبه خرج إلى العراء•• ولم يعرف أين يتجه•• وصدفة تفطن ابني لوجوده وعجزه عن الطيران إلا بصعوبة فجرى خلفه، وساعده شابان فألقوا عليه القبض وعاد به نزار إلى المنزل، وكان لدينا مجموعة أقفاص فارغة•• فوضعنا هذا العصفور الهائم في أحدها ووفرنا له الحب والماء•• وبعد فترة قصيرة عاد إلى طبيعته يزقزق في سجنه مرحا أو ألما لا ندري، وبعد أيام صار يطربنا بأجمل الألحان وأكثرها عذوبة ورقة وحنانا••أحسست أن هذه الألحان تعبر عن الحزن العميق والألم الحاد لأنه سجين قفص، لأنه سلب الحرية•• ووحيد•• فهل أطلق سراحه فأفتح له باب القفص ليطير ويستعيد حريته أم أبحث له عن كنارية صغيرة وجميلة تخفف من وحدته وينجب معها مجموعة من العصافير تملأ عليهما حياتهما بهجة وسرورا•• وتطرد عنهما شبح الوحدة؟ إطلاق سراحهما يحرمني من لذة مشاهدة عصفوري وهو يقفز في القفص ومن لذة الاستماع إليه وهو يغرد بأحلى الألحان حتى ولو حزينة باكية•• أحسست وأنا أستبعد إمكانية إطلاق سراحه أني مثل أي حاكم عربي كبير أو صغير تتحكم فيه أنانيته فيصدر تعليماته وقوانينه ليكون الناس في خدمته•• وقلت لو أعطيته حريته فإنه بدون شك سيتعب ويشقى وهو يبحث عن الحب، وعن كنارية تؤانسه وتنسيه هموم الدنيا• فلماذا لا أبحث له عن عروس جميلة أنيقة ساحرة تملأ حياته سعادة وحبورا؟•• ونفذت الاقتراح الثاني• بعد أيام وأنا أتعهد العريسين في قفصين متجاورين -وكنت فصلتهما منذ أيام قليلة عن بعضهما، وقدمت للعروسة نصف حبة بيض مسلوقة، وتحولت إلى عريسي لأعطيه النصف الباقي فإذا بالعصفورة تطير•• لقد نسيت باب قفصها مفتوحا وبدأت مطاردتها في الحوش، وساعدني نزار وهو يسمع صراخي وجاء قطي المدلل واشترك معنا في المطاردة•• وماهي إلا لحظات حتى كان القط أشطرنا في القبض على العصفورة لقد ضربها بمخلب وزادها ضربة ثانية بالمخلب الثاني ثم هجم عليها فإذا هي في فمه وبين أنيابه وأسنانه•• ولم يتردد نزار في مطاردة القط وضربه بقبضة يده على صدره لكنه لم يرم العصفورة جانبا فزاده ضربة قوية برجله حتى ارتطم بالحائط هنا ترك العصفورة من فمه وذهب بعيدا يتلوى•• نزار أسرع إلى العصفورة ووضعها في يده فإذا هي جثة هامدة بلا حراك•• استدار نحوي ورشقني بنظرات ألم كبير وهو يحاول أن يتغلب على دموعه وقال: - ماذا لو كنت أنا من ارتكب هذه الغلطة؟ يا أبي لماذ ارتكبت هذه الغلطة؟ - واستمر في تقليب العصفورة في كفه•• فقلت له: - هذا قدرها•• ضعها في العش أو اتركها تموت•• هذا حظها•• نزار أدخل العصفورة داخل قفصها فانكبت على وجهها بدون حراك•• وسقطت قطرة دم من رأسها•• خلف العين•• القط غرس نابه هناك•• نزار مازال يقاوم البكاء وكنت وقتها كمن أصابه الخرس•• وعاد نزار ليضع العصفورة في العش•• وانشغلنا عنها بضع دقائق وجاءني نزار وأساريره مهللة وقال: - بابا•• العصفورة حية•• ماماتش• نعم هي حية ولم تمت، وقلت بصوت مسموع:"يا سبحان الله•• الأعمار بيد الله، وكأني كنت قد نسيت هذه البديهة خاصة وأنا أشاهد القط وهو يفترسها افتراسا واستسلمت للموت•• ويئست منها مثل ابني نزار ثم ها هي تعود إلى الحياة•• هذه الحادثة صارت تتكرر على لساني كلما سمعت بخبر جلل يتعلق بالموت والحياة، وكنت أردده وأنا أتلذذ بقدرة الخالق عز وجل وهو يعيد الحياة لعصفورة صغيرة لا حول لها ولا قوة بعد أن ضربتها مخالب القط وانغرست فيها أنيابه وأسنانه•• هو بالنسبة لها كأنه أسد جائع اصطاد فريسة مسالمة•• رويت الحكاية لأكثر من واحد، وخاصة للربيع وهو شاب يمتهن تربية العصافير وعامل في دكان صديقنا السعيد كشاد في بسكرة، فقال لي وهو خبير فيها: - ذات يوم سقط القفص بعصفوري من الحائط•• تكسر القفص، وتكسر جناح العصفور وتكسرت رجله•• هذا العصفور كان حبيبا إلى قلبي وعرفت أنه ميت لا محالة، فضربته برجلي مثل كرة القدم من شدة غضبي وحزني على هذا العصفور الذي كان أمامي بلا حراك•• وبعدما تأكدت من وفاته رميته من مكاني فوق سطح منزلنا•• وكنت على يقين أنه ميت وستأكله القطط في أية لحظة•• كان ذلك في الصباح• وفي المساء جاءني شاب جار لنا وقال لي عصفورك هاو عندنا في الدار فقلت له: - خلاص مات•• راني عارف•• فقال لي: - لا•• ماهوش ميت•• راهو لاباس اعليه• وفي الحين سآتيك به••• وماهي إلا دقائق معدودة حتى جاءني الشاب الجار وهو يحمل عصفوري الجريح•• مكسور الجناح ومكسور الرجل•• لا أستطيع أن أصف لك فرحتي يا أستاذ•• خاصة وأن هذا العصفور حبيب إلى قلبي ولديه ألحان لا مثيل لها، وأنجب لي عصافير عدة بعتها جميعا أما هو فلم أبعه رغم أنه كان يمكن أن يجلب لي أكثر من مليون سنتيم•• ولم أتردد في نقله إلى طبيبة بيطرية في حيّنا فوجدته غير قابل للحياة••هو مكسور الجناح ومكسور الرجل•• فرجوتها أن تبذل ما تستطيع من الجهد لإنقاذه• وضعت له جبيرة في جناحه وجبيرة في رجله وبدأ يقاوم وتحسنت صحته وتطورت ألحانه•• وقدمته هدية إلى صديق فعاش حياة سعيدة مثل أي عصفور محظوظ•