الجميع في بريان ينشد السلم ويبحث عن العيش في طمأنينة في مدينة كانت مضرب المثل في تعايش المذهبين الإباضي والمالكي، بريان التي زرناها في مرات سابقة تختلف عن تلك المدينة التي غرقت خلال الأيام الفارطة في صمت رهيب يخفي أنات أرض أنهكها شغب أبنائها، وإصرارهم على صم آذانهم عن نداءاتها، لكن هل يعقل أن تنجح الفتنة في تفريق الأبناء أم أن إرث المنطقة الذي يغوص قرونا في الزمن سيكون أقوى من كل السقطات؟ من غرداية : سهام مسيعد وصلنا إلى غرداية بعد 8 ساعات تقريبا من السفر بالحافلة، وما أن وطأت أقدامنا هذه الأرض الطيبة حتى حظينا بحفاوة استقبال أهلها الذين لم يبخلوا علينا بشيء، في البداية التقيت السيدة حسينة التي أبدت مساعدتها على الرغم من ظروفها والتزاماتها مع ابنها الذي أجرى عملية جراحية حديثا، ثم التقيت الحاج هدار الذي أعاننا على التحرك و ربط الاتصال مع بريان، أردت من خلال الدردشة التي جمعتني بعدد من المواطنين أن أجس نبض الشارع الغرداوي خيال ما يجري في بريان، واعترف أنني لم أتفاجأ أبدا بحالة التذمر التي بدت على محيا جميع من حدثوني عن بريان، لكن أكثر ما أثار انتباهنا كان ذلك الشعور الذي تركته كلمات من تحدثنا إليهم عندنا وهو ذات الشعور الذي يعطيك انطباعا بان مدينة بريان التي عرفوها وتعايشوا معها لم تعد موجودة، بل إنهم اليوم يسمعون ويرون بريان أخرى تختلف تمام عن تلك المدينة التي تتعانق فيها مآذن المساجد. أكثر من 2000 شرطي ودركي في اليوم الموالي لوصولنا، شددنا الرحال إلى بريان، ولن أخفي أمامكم الخوف الذي شعرت به وأنا أدخل المدينة، لا لشيء سوى لأن أول ما قابلنا كان محطة الحافلات المخترقة جراء أعمال العنف الأخيرة التي انطلقت مساء الأربعاء الفارط. بقينا في بريان يوما كاملا، وقد لاحظنا وجود تعزيزات أمنية مشددة إلى درجة أن عدد رجال الشرطة و الدرك يكاد يتجاوز عدد الناس الذين كانوا يتجولون في الشوارع، سيارات شرطة ودرك مختلفة الأحجام و الأنواع، وقوت لمكافحة الشغب انتشرت هنا وهناك، وقد أفادت مصادرنا أن عدد رجال الأمن الذين تم توفيرهم من طرف الدولة من أجل العمل على توقيف أحداث العنف المتجددة في بريان قد بلغ قرابة ال 2000 رجل أمن بين شرطة ودرك، غير أن السكان مازالوا يطالبون بالمزيد. وأنت تمشي قي أزقة المدينة، تشعر بذلك الهدوء الذي تغرق فيه المنطقة، خاصة بعد الإضراب الذي دخل فيه السكان خلال الأيام الماضية، لكن هذا الهدوء ومع الأسف ليس هدوءا عاديا يبعث على الطمأنينة والارتياح بل على العكس من ذلك هو هدوء يوحي بأن شيئا ما يحاك، وقد كان أكثر ما أثار انتباهنا ونحن نتجول في أزقة بريان العتيقة _التي لم تمنعنا أجواؤها المشحونة من العودة في الزمن قليلا _ وجود كميات هائلة من الأحجار متوسطة الحجم، والتي قال لنا السكان إنها كنت تستعمل في التراشق بين المتناحرين، الحجر ليس دائما على حق فقد يحمل بداخله قضية كما هو الحال في فلسطين وهنا يكون الحجر مباركا، لكنه أيضا قد يكون مجرد حجر طائش لا روح له كذلك الذي رأيناه في بريان وهنا يكون حجرا ملعونا لا رجاء من استعماله. سؤال يتكرر بعد برهة من وصولي إلى بريان، انتشر بين الناس خبر وجود صحفية بالمكان، لأتفاجأ بقدوم بعضهم يسألني إن كنت انتمي إلى إحدى الصحف اليومية، فرددت أنني من "صوت الأحرار"، وهنا تغيرت ملامح هؤلاء التي كانت تميل إلى القسوة ليحدثوني بعد ذلك عن عتبهم على إحدى هذه الجرائد إلي زادت الوضع تعقيدا بسبب ما ينشره صحفيوها, هذا السؤال تكرر معي كثيرا أينما حللت في بريان، ولدى حديثي إلى الإباضيين والمالكيين، وقد كان عائقا قويا أمام محاولتي الجاهدة للحصول على المعلومة، الناس في بريان جرحى، وكل من يضع ملحا على جرح أحدهم فهو آثم لا محالة، جميع من قابلتهم أكدوا لي أنهم لا يريدون سوى الحقيقة والحقيقة وحدها دون زيادة أو نقصان، وما هذا بعزيز على كل من يتحرى الدقة في معلوماته. مدينتان في بريان من أكثر الأمور التي تجعلك تأسف وأنت تدخل مدينة بريان هو تقسيم المدينة إلى مدينتين، نصف يسكنه المالكيون وآخر للإباضيين، ثم إن لا مالكي يدخل جهة الإباضيين ولا إباضي يجرؤ على الذهاب إلى جهة المالكيين، حتى إنني عندما أردت الانتقال من المدينة المالكية إلى المدينة الإباضية، صارحني مرافقي قائلا "إذا أردت الذهاب فاذهب وحدك، أنا لا يمكنني مرافقتك،" وهنا أدركت حجم ما يحدثّ، وقد أفادت بعض المصادر لنا أنه ومنذ أحدث 19 مارس 2008، أحد ممن خرج من منزله عاد إليه ليتفقده، ولا أحد من أصحاب المحلات قصد محله، كما أن أصحاب الأراضي الذين غادروها لم يتمكنوا منذ عام تقريبا من الذهاب إليها مخافة أن يتم التعرض له، هذا الوضع أدى إلى تردي مئات العائلات في بريان نتيجة ذهاب مصدر رزقهم، كما أفضى إلى بطالة مئات الشبان الذين كانوا يعملون في هذه المحلات والأراضي، غير أن مكمن المشكل يتمثل في اتفاق الجميع في بريان على السلم دون المصالحة، بعضهم قال لنا " نريد السلم، لكننا نريدهم أيضا أن يخطونا، ما يجو لينا وما نروحو ليهم"، وما أصعب أن تعيش في مدينة كنت يوما تصول فيها وتجول لأنك تحب كل نقطة فيها، ثم تجد نفسك محاصرا في عقر دارك بعدم الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك. في منزل ابراهيم التقينا السيد ابراهيم مشاط بن عمر أحد أعضاء المجلس المالكي في بريان ومدير مدرسة متقاعد، وقد أخذنا إلى بيته الذي أقدم عدد من الشبان على اقتحامه وحرقه ليلة 15 أفريل القارط على الرغم من أنهم يعلمون بوجود زوجته وأبناءه داخله، وهناك وجدنا منزلا احترق كل ما فيه، غير أن أكثر ما يحيك في النفس هو احتراق مكتبته الخاصة التي كانت تضم أكثر من 800 عنوان، جدران سوداء عمت المكان، وبقايا بعض المواد الكيميائية ومنها مذيب سيليلوزي، إلى جانب بعض المواد الحارثة، كلها كانت في منزل ابراهيم، ليطلعنا بعد ذلك عن أحد الأسلحة الذي استعمل في ضرب ابنه وهو عبارة أن كرة جديدة يخرج منها عدد من المسامير، وقد كانت كل تلك الوسائل التي شاهدناها دليلا على أن ما حدث كان جريمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. حتى المساجد والقبور لم تسلم في بريان يتحدث الناس عن غلق المساجد وتعرض المصلين للاعتداء بالرشق بالحجارة عند اقترابهم من المساجد للصلاة ويحدث هذا بحسب ما أطلعنا عليه السكان خاصة يوم الجمعة، ولدى تجوالنا بالمنطقة وجدنا أالمسجد العتيق مغلقا منذ أيام في وجه المصلين، كما أننا رأينا أيضا أحد المساجد الإباضية مهجورا، وفي المدينة أيضا دخلنا إلى إحدى المقابر التي بدت على قبورها آثار الاعتداء، حيث لاحظنا آثار حريق وتكسيرات كالت بعض القبور والأدهى من كل هذا أن الناس يتراشقون الاتهامات فيما بينهم كل واحد منهم يتهم الآخر بالاعتداء عليه، ليضيع المستمع بين هذا وذاك. والليل إذا عسعس إذا كان نهار بريان يشبه الليل في هدوؤه وسكينته فالليل هناك اسبه بالنهار حيث أن أغلب عمليات الاعتداء في بريان تحدث عندما يلقي الليل بستاره على المدينة التي تبدو نائمة لكنها تبقى يقظة في انتظار ما يحدث، ولدى وصولنا فقط سمعنا عن الشاب الذي تم إطلاق النار عليه من مسدس صغير في تمام منتصف الليل، كما أن بيت ابراهيم تم الاعتداء عليه ليلا، وعلى الرغم من أن الموضوع مأساوي، إلا أنه يدعو إلى السخرية في بعض الأحيان، فأحد محدثينا استشهد لنا بكلمات أمه في وصفها لليالي بريان عندما قالت "ما يحدث عندنا كل ليلة يشبه مغامرات توم وجيري" ووجه الشبة الذي أرادته السيدة كان ذلك العناد والمد والجزر بين الطرفين. تعددت الأسباب والفتنة واحدة يرى البعض أن الفتنة في بين المالكيين والإباضيين، على الرغم من أن رئيسا الجماعتين أكدا لنا أن ما يحدث بعيد كل البعد عن صراع المذاهب، غير أن البعض الآخر ممن تحدثنا إليهم يجزم بأن الواقفين وراء ذلك في أحزاب طالما عرفت في الساحة الوطنية السياسية بأنها عنصرية، وأن شباب بريان مندفع نحو هذه الأفكار الجديدة الواردة على المنطقة، أما الاتجاه الثالث فيرى أن السبب يرجع إلى البطالة وبعض المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها شباب المنطقة. تركنا بريان مساء أول أمس وكلنا أمل في أن يفضي الاجتماع الذي عقده الوزير المنتدب المكلف بالجماعات المحلة دحو ولد قابلية مع أعيان المنطقة إلى مصالحة بين الجميع، على أمل أن أعود إليها مرة أخرى للسياحة فأجد يد الجميع ممدودة إلى بعضهم البعض كعهدنا دائما بأهل الصحراء، ويبقى آخر أمل نرجوه من شباب بريان أن يستمعوا إلى صوت هذه المدينة الذي أخفتته المواجع، وأن لا ينتظروا الحل من سواهم لنهم المسؤول الأول