عرفته منذ كنّا صغارا..ذكاؤه لئيم كمعظم الجزائريين..عقله يدور مليون دورة في الساعة في سبيل مصلحته..حتى في الدراسة لا يقرأ إلاّ ما هو مقرّر.. كان يحسبني "مهبولا" كلما رآني أحمل كتابا في يدي..افترقنا في نهاية التعليم الثانوي بعدما حصل هو على البكالوريا، أما أنا فأعدت السنة.. أذكر أنه فوجيء لخيبتي وقال لي حينها: شفت، هبلوك الكتب..أقرا قيس البرنامج بركات إذا حبيت جيب الباك.. مرّ وقت طويل وانقطعت عني أخباره، حتى التقيته في حلّة أخرى لم أكد أتعرّف عليه.. كان يهمّ بمغادرة كلية العلوم الإنسانية ببوزريعة..أصرّ على أن نجلس في مقهى جميل ويسمع عني أخبارا جديدة.. قلت له إنيّ حضّرتُ رسالة ماجستير وأشتغل بالصحافة والكتابة، وسألته وأنت؟ قال لي بسرعة: راك طوّلت يا صاحبي، أنا طويت الماجستير في ثلاث سنوات وخذيت الدكتوراه وراني أستاذ في الجامعة.. باركتُ له نجاحه واستطرد يقول بفخر وبنبرة الصوت ذاتها التي كنتُ أسمعها منه في الثانوية: أنا تعرفني..مانكسّر راسي ما والو..بحث صغير للماجستير وجعدّتو للدكتوراه..و..c'est bon.. لم يذهلني ما سمعتُ منه، فالرجل لم يتغيّر..وراح يقول: البلاد هاذي ماهيش نتاع علم..واش من جامعة..واش من تكوين..لازم تعرف من أين تؤكل الكتف؟ سألته عن هذه الكتف التي يعرف كثيرون غيري في هذا البلد كيف يأكلون منها، فأجاب بسرعة: يا صاحبي أنا ماضيّعتش الوقت كيما أنت في قراءة الكتب والتحليل والتأمل..هدفي كان "الدال" وجبتها..والآن ما يخصني والو..الساعات الإضافية،منحة التأطير، السيارة، السكن..وزيد حتى الوجاهة الإعلامية في "اليتيمة وأولادها".. ودّعته وعدتُ وحدي أتساءل في نفسي عن أسرار الفجيعة المتعددة المصادر في هذا البلد الذي أنهك بالخيارات الخاطئة إذ اعتنى بكل شيء إلاّ..الإنسان.. "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". قرآن كريم