تراه كل صباح عند باب سوق أول ماي بالعاصمة.. يتكئ على الباب الحديدية لساعات طويلة.. يعرفه الباعة والمشاة وعابرو السوق.. تضاريس وجهه تشي بكل شيء..الفقر والحرمان والعذاب الذي على أصوله.. يتسربل في أسمال بالية..قميص فقد لونه وسروال بنّي أو يقترب من هذا اللون.. يضع على رأسه طاقية سوداء من أكثر من عام..لم ينزعها عن رأسه.. هو لا يسأل الناس إلحافا رغم أن يجمع الطعام مما ترك الباعة في صناديق القمامة في آخر النهار.. ومع ذلك يحرص على العمل حتى لا تكون يده سفلى.. دأب الناس على رؤيته في نفس المكان كما لو نبت فيه..يغادرون فيتركونه هناك ويقبلون صباحا فيجدونه في هناك.. لا أحد يعلم إن كان قد غادر إلى بيت يؤويه، أو إن كان له بنين وحفدة.. هو لا يتكلّم..بل لا يُسمع له صوت..يكتفي بوضع صندوق من "الكارتون" ويضع عليه بعض علب "الشمّة".. نادرا ما ترى من ابتاع منه علبة أو كيسا.. اقترب منه أحدهم يوما وسأله: يا الحاج..مافيهاش الشمّة اليوم..لو كان تاخذ رايي أتبيع الزطلة..! لم يردّ عليه بأي كلام..شعر الفتى بأنه احتقره فأعطى قدميه للريح.. في هذا الصباح..وعلى غير العادة..ظلّ مكانه خاويا على فراغه.. كل الذين "يعرفونه" من المتسوّقين في هذه السوق سأل عنه، عسى أن يكون قد جرى له مكروه، فالرجل كان جزءا مكانهم ولو بصمته طيلة سنوات عديدة.. لا أحد يعرف ما جرى له لأن لا أحد يعرفه حقيقة..! ذي هي المدينة التي لا تقوم إلاّ على صور الناس وأشكالهم ولا تقوم أبدا على جوهرهم.. لا مكروه إلاّ ما نقوم به نحو الآخرين حينما نزدريهم..!