من المفارقات الجديرة بالتأمل حقا أن الإعلام في داخل أمريكا وخارجها سعى لتقييم المائة يوم الأولى لحكم أوباما بمعزل كامل، في أغلب الأحوال، عن جوهر التغير الذي حدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية بوصول أوباما للحكم• وقد أدى ذلك إلى تقديم صورة تقليدية تحلل أداء الرئيس وإدارته بمنهج قائم على النظر إلى المسألة وفق كل قضية على حدة أو وفق كل حزمة من القضايا، على أفضل تقدير، وهو منهج يقوم على المقارنة بين ما قاله أوباما في الحملة وما فعله في المائة يوم الأولى أوبين ما فعله بوش وما يفعله أوباما بشأن القضايا ذاتها• وذلك كله دون الاهتمام بالصورة الكلية التي قد تكون في الواقع أكثر أهمية بكثير، بل ومن شأنها أن تساعد بدرجة أكبر على استشراف المستقبل واتجاهاته• فأوباما لم يصل للحكم بطريقة تقليدية حتى يمكن تقييمه باستخدام المعايير التقليدية• فالرجل لم يصل للحكم وفق حملة انتخابية عادية، وإنما كانت المسألة أقرب إلى الحركة السياسية واسعة النطاق التي وقفت قواها وجماعاتها على اختلافها وراءه وحملته حملا للبيت الأبيض• وحملة 2008 الانتخابية وما جرى فيها تظل واحدة من أهم الأحداث السياسية التي سوف تترك بآثارها العميقة على العملية السياسية في الولاياتالمتحدة الأميركية لسنوات طويلة قادمة• فحملة أوباما استطاعت أن تغير من الخريطة السياسية الأمريكية بشكل نوعي• فقد نجحت في ضم قوى جديدة صارت في مربع الديمقراطيين مثل الأمريكيين من أصل لاتيني الذين كان بوش وفريقه يراهنون على اجتذابهم للحزب الجمهوري• وبفضل ''استراتيجية الولايات الخمسين'' التي أصر عليها هوارد دين الذي كان رئيسا للحزب الديمقراطي وقت الانتخابات فاز أوباما في ولايات طالما وقفت في صف الجمهوريين• فهوارد دين كان قد أصر في تلك الانتخابات رغم سخرية الكثيرين منه وقتها على أن تتم التعبئة والحشد الانتخابي في الولايات الخمسين ليس فقط في الولايات ''الديمقراطية'' تقليديا فكانت النتيجة أن فاز أوباما في ولايات جمهورية منها عدد من ولايات الجنوب• وفضلا عن ذلك فقد نجح أوباما لأول مرة في اجتذاب الشباب الذين صاروا في الواقع العماد الرئيسي لحملته، وجاء منهم ذلك الجيش الهائل من المتطوعين الذين دعموه• بل أكثر من ذلك أسهم جيل الشباب إسهاما بالغ الأهمية في النجاح الباهر الذي حققته حملة أوباما في استخدام تكنولوجيا الاتصالات• ولا يمكن في الواقع فصل كل هذا عن عملية إدارة الحكم بعد تولي أوباما• إذ يصبح السؤال الرئيسي متعلقا بتوظيف ما سبق في إدارة دفة الحكم•• أي هل يستطيع أوباما الذي جاء للحكم بشكل غير تقليدي أن يغير المعادلة السياسية أم ستهزمه واشنطن ويتحول إلى رئيس تقليدي• ومن الواضح أن أوباما أدرك بعد المعركة الضارية التي دارت بشأن مشروع قانون إنعاش الاقتصاد، والتي تكتل فيها الجمهوريون ضده، أنه يحتاج إلى نقل الزخم الذي حدث وقت الانتخابات إلى أروقة الحكم• ومن هنا، بعد أن كان مستشاروه قد عقدوا العزم على إعطاء أنصار أوباما، في طول البلاد وعرضها، فترة ثلاثة أشهر من الراحة قبل اللجوء إليهم لدعمه، أدركوا أن الرئيس لا يملك ترف الانتظار فبدأ العمل بعد أسابيع قليلة لحشد هؤلاء من جديد ليس فقط من أجل تمرير مشروع إنعاش الاقتصاد وإنما من أجل دعم ميزانية الرئيس وأولوياته الأخرى• فتم تحويل الآلة الانتخابية لأوباما التي كانت تتواصل مع الحركة الواسعة التي أيدته• والتي كان يطلق عليها ''أوباما من أجل أمريكا'' إلى منظمة صارت تسمى ''منظمون من أجل أمريكا'' وتم إلحاقها بالحزب الديمقراطي، وصار الهدف الأول للمنظمة هو التواصل مع ''حركة'' أوباما على اتساعها وتشجيعها على خلق رأى عام مؤيد لأجندة الرئيس• وراح أوباما يسعى للتواصل المباشر مع الناخبين دون وسطاء• لذلك فهو أكثر الرؤساء الأمريكيين التفافا في المائة يوم الأولى حول الإعلام التقليدي• فعادة ما يلجأ الرؤساء للالتفاف حول الإعلام بعد أن تنهار شعبيتهم• أما أوباما فقد فعل ذلك منذ الشهور الأولى ولا تزال شعبيته تتجاوز الستين بالمئة• وصحيح أنه يعقد المؤتمرات الصحفية ويدلي بالتصريحات لوسائل الإعلام، إلا أنه يكتب بنفسه أيضا مقالات للصحف، ويجيب أسبوعيا عن أسئلة الناس على مدونة ذات رابط بموقع البيت الأبيض، وكان أول رئيس أمريكي يظهر في برنامج جاى لينو الشهير• وعلى غير العادة أيضا في المائة يوم الأولى، خرج أوباما من واشنطن أكثر من مرة وراح يلتقي بالجماهير في مواقعهم ومدنهم ويسمع منهم• ومن السابق لأوانه الحكم على نجاح أوباما في تحويل ''حركة أوباما'' إلى فاعل جديد له أثره على صنع السياسة في واشنطن• ولعل التحدي الرئيسي هو ذلك الذي يتعلق بالقيود القانونية التي تحظر على العاملين بالبيت الأبيض الخلط بين السياسي والانتخابي، الأمر الذي يحرم فريق البيت الأبيض من التواصل المباشر مع أنصار الرئيس كما كان الحال أثناء الحملة الانتخابية• ومن هنا يصبح السؤال متعلقا بمدى قدرة أوباما على التواصل مع أنصاره من خلال الحزب الديمقراطي• ويرتبط ذلك بسؤال أكثر أهمية يتعلق بما إذا كانت المنظمة الجديدة ''منظمون من أجل أمريكا'' قادرة على تغيير الحزب الديمقراطي أم أن الحزب الديمقراطي بهياكله الحالية هو الذي سيسحقها ويكيفها وفق أوضاعه• أما السؤال الثالث الذي لا يقل أهمية•• فهو ذلك المرتبط بتأثير قرار إلحاق المنظمة بالحزب الديمقراطي على دعم الناخبين المستقلين والجمهوريين الذين أيدوا أوباما في حملته الإنتخابية و لكنهم لم ينضموا للحزب الديمقراطي.